تكلم حتى أراك (Speak so I can see you)

بقلم منذرهنداوي

هذه العبارة قيلت بصيغ مختلفة و نسبت لعدد من الناس. لكن بعضهم ينسبها إلى سقراط، وأنه قالها لشخص وسيم كان يتقدم نحوه ببطء متبختراً في مشيته، و ينظر  بأسلوب يوحي بالتباهي و الغرور و الثقة دون أن يتكلم. نظر إليه سقراط مطولاً، ثم قال له: “تكلم حتى اراك”. 

بالطبع أنت ترى الشخص بنظرك. و قد توحي ملامحه و نظراته ببعض ما يحمل برأسه. لكن النظر وحده لا يكفي حتى تعرفه. فلن تعرفه إلا عندما يتكلم و يشرح رأيه و يحاور. فقط عندها تراه جيداً و تكتمل ملامح شخصيته في ذهنك. ملامح وجهه تتغير معانيها بعد أن يتكلم. فنفس ملامح العينين و الابتسامة التي ربما رأيت فيها الجمال و اللطافة قد تراها بعد أن يتكلم بطريقة مختلفة و ربما تنم عن بشاعة و حماقة. و العكس صحيح. فكم من ممثل أو مقدم برامج تلفزيونية او تلميذ في المدرسة كنت تراه بشع الملامح، وصرت تراه رائعا و جميلاً بعد أن تكلم و تعرفت على طيبة نفسه و ذكائه. بدون شعور أنت تُسقط عليه ما رأيته من صفاته الجميلة بعد أن تستمع إليه. فما رأيته للوهلة الاولى من قبح قد يصبح جميلاً بعد أن يتكلم. 

طبعا “تكلم” لا تعني مجرد النطق بكلمات. بل تعني أن تقول رأيك، أو ما يشغل بالك، أو إلى ماذا ترمي. تكلم تعني قلْ و اغضب أو افرح و انتقد حدد نقدك بقدر ما تستطيع، و امتدح ما تراه ذَا قيمة فيما تسمع و تقرأ، لكن دون مبالغة في الإطراء. تكلم تعني ألا تبقى صامتاً فكلامك يعبر عنك. بل كلامك هو أنت. تكلم حتى تتعود أن تعبر عن نفسك بأبسط ما يمكن. 

الكلام ليس مجرد ثرثرة. عندما يقتصر الكلام على التنقير أو التلغيم أو المبالغة بالسخرية فلا قيمة تذكر له. طبعا كلنا نحتاج إلى الراحة و المزاح و بل و شيء من السخرية و التنقير و بعض العبث و الثرثرة في آخر الليل أو آخر الأسبوع، بعد يوم عمل او أسبوع عمل مضن. و لكن هذا لا يشكل مجمل حياتنا. يشكل جزءاً بسيطاً من حياتنا. الحياة تتطلب مزيداً من الجد. الترفيه ضرورة، لكن الجد ضرورة أكبر. حتى أجمل البرامج الترفيهية لم تُصنع إلا بعد عمل جدي شاق من قبل الكتاب و المخرجين و الممثلين. 

ليس صحيحا ذلك القول: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. صحيح أن هناك لحظات بسيطة يكون فيها السكوت من ذهب لكن هذه اللحظات هي الاستثناء، وليست القاعدة. المجتمع الذي يؤمن بأن السكوت من ذهب هو مجتمع الموتى في القبور. هو مجتمع الاستبداد الذي يتلبس الأفراد. أو هو بأحسن الأحوال تجمع أفراد متخوفين من بعضهم و ينتظر الواحد منهم غيره على هفوة كي ينقض عليه و يشهر فيه و ينشر عرضه. بئس ذلك من مجتمع. بئس مجتمع لا يعرف كيف يحل خلافاته بالكلام و الحوار. بئس مجتمع تعود الناس فيه على المقاطعة و التحارب لأتفه الأسباب.

للكلام هدف وغاية. بالكلام نفهم على بَعضنا و نتعرف على بَعضنا على نحو أفضل. بالكلام نكتب قصصنا و اختراعاتنا ونوصلها إلى غيرنا من البشر. بالكلام نتواصل و نتحاور و تتقدم بيننا أفكار افضل. الأفكار و الحكم الكبيرة التي نتداولها ليست خلاصة عبقرية لأشخاص عاشوا منفردين، بل خلاصة بيئة فكرية متطورة ساد فيها التعلم و التحاور فأنجبت أعلاماً صرنا نعرفهم بأقوالهم. سقراط لم يكن له أن يصبح ذلك الفيلسوف من خلال صمته، بل من خلال بيئته التي اتسمت بالتحاور المنظم في حلقات فكر كان اهتمامها تطوير كيف نفكر. فقط بالحوار و بالكلام الهادف فيما بيننا نصبح بحق مجتمعاً قادراً على حل عقده وأزماته بنفسه، وعلى تطوير عادات وقيم أفضل و مناخاً داعماً للتطور.

Print Friendly, PDF & Email