(From hatred to empathy) من الكراهية إلى التعاطف

New Zealand PM Jacinda Ardern condoling relatives of the victims of the terror attacks on two mosques in Christchurch
بقلممنذرهنداوي

أظهرت ردود الفعل لدى  النيوزيلانديين على  الحادث الإرهابي الذي وقع  فيها حاجتنا كي نعيد النظر بكثير من تصرفاتنا، و من المفاهيم التي حكمت عقولنا. فقد برهنت  هذه المعالجة على أن التعاطف وحده يمكن أن يحل أكبر العقد، و يمضي بالمجتمع نحو مزيد من التفاهم والتآزر. بهذا التعاطف أثبت النيوزلنديون أن مجتمعهم قولا و فعلاً  جسدا واحدا “إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَت له سائرُ الأعضاء  بالسَّهَرِ والحُمِّى”.

في منطقتنا و على مدى حوالي نصف قرن، مثل هذه الاعمال الإرهابية  أدخلت شعوبنا في حروب أهلية متتابعة، في لبنان و في العراق ثم في سوريا و في ليبيا و اليمن ذهب ضحيتها الملايين. كنا نقتل بعضنا البعض ونحن نرفع رايات الوطنية أو القومية أو الدينية!النيوزلنديون لم يرفعوا شعارات وطنية، ولم يلقوا الخطابات البليغة عن التصدي للإرهاب. كل ما فعلوه أنهم عبروا بتصرفات هادئة و نابعة من القلب عن تعاطف متنوع الأشكال مع الضحايا وأسرهم و مع الجالية المسلمة برمتها. بالترافق مع ذلك وضعوا قوانين صارمة تحد من امتلاك السلاح. 

من منا لم يتأثر بصور رئيسة وزراء نيوزيلندا وهي تعانق بحزن أفراداً من أسر ضحايا العمل الإرهابي، وكأنها تعانق أفراداً من عائلتها!؟. من منا لم يتأثر بصور آلاف الناس من غير المسلمين و هم يضعون أكاليل الزهور في الساحات حول الجامع الذي حصلت فيه المجزرة !؟ من منا لم تحركه مشاعر الاحترام و التقدير لمشاهدة صور النساء النيوزيلنديات يلبسن اللباس الذي تلبسه المسلمات كي يقولوا : نحن معكن و لا تخافوا من الظهور باللباس الذي ترغبون؟ من منا لم يتأثر وهو يشاهد كيف استمع الناس باحترام لآيات من القرآن الكريم و للآذان في الساحات!؟

انظروا كيف حوّل التعاطف الحقيقي الفعال جريمة ارهابية كان يراد لها أن تصبح حقل ألغام يفجّر العداء بين المسلمين والمسيحيين إلى ساحة ورود للتآخي بينهم. ألا يجب أن يدفعنا ذلك إلى التفكير كيف نما التعاطف في تلك المجتمعات البعيدة، بينما نمت الكراهية في نفوسنا؟ نتغنى بأننا جسد واحد، وشعب واحد، وقومية عربية واحدة، ووطن واحد، بينما على أرض الواقع نجد أن الكراهية المستحكمة بالنفوس تمزقنا وتنفجر صراعات طائفية ومناطقية، وعشائرية، وأهلية، تبدو جميعها بلا نهاية.  

انظروا إلى كُتاب، وأصحاب صفحات على الفيسبوك ممن لا يتوقفون عن الحديث بالوطنية والقومية. دققوا بأي اتجاه تصب خطاباتهم. هل ادت الى بث روح التفاهم مع من يختلفون معهم من الإخوة من أبناء الوطن الواحد؟. هل من قدرة لديهم للاستماع لمواجع الطرف الاخر؟ ام ان كل طرف يتشفى و يشمت لدى وقوع ابشع المجازر على اطفال و نساء ابرياء . حاول أيها القارئ أن تنتقد أحدهم، أو تختلف معه على فكرة ما، و انظر إلى حجم العداء و الويلات التي تجرها على نفسك؟. فمن أنت لتختلف مع قاماتهم العظمى! ومن أنت لتتفلسف وتقول رأيك أمام حضرتهم!. 

أبطال قوميون بلا بطولات. أبطال بالصياح و التحزب و الإتهام. أبطال بنبذ من يختلفون معهم، وفي زرع الكراهية بين مكونات الوطن الواحد. و فوق كل هذا يتحدثون عن روابط القومية والعروبة، بينما أفعالهم تساهم بتمزيق هذه الروابط. فليس بطلاً قومياً من لا يعرف كيف يتصالح  مع أبناء وطنه، ومن لا يساهم بمد جسور التفاهم بين أفراد ومكونات الوطن. الوطنية والانتماء القومي الحقيقي ليس مجرد رفع شعارات، بل قدرة على التواصل مع الناس، و إرادة على بث روح الانتماء و التفاهم بينهم. كيف تكون وطنياً و أنت تنفجر غضباً عند أدنى خلاف في الرأي مع مواطن مثلك وتمضي نحو إقصاءه. 

لننظر إلى وجه آخر كشفت عنه هذه الحرب و كيف طغت الكراهية  على النفوس حتى عميت أبصارنا. تسقط قذيفة في قرية تقتل النساء و الأطفال و الشيوخ، لتعلو في القرية المجاورة صيحات الفرح و التشفي من قوميين مزعومين، و رجال يلبسون عباءة الدين زوراً،  فما هذا الفرح؟! ألا يدل على تغول الكراهية بالنفوس؟ بلى إنه يدل على تفشي الكراهية و يظهر كم انحدرنا بعيداً عن الانسانية فينا. 

لنترك هذه الحرب جانبا و ننظر بعلاقاتنا. كم من خلاف بسيط بين الأولاد، أو زلة لسان عابرة، سببت عداوة مستحكمة بين الناس!؟ كم من كلمات قيلت في لحظات غضب صارت لحظة تاريخية تؤرخ لقطيعة بين الأهل و الأولاد و حتى الأحفاد الذين لم يولدوا بعد! كم من عداوات ورثها الأولاد عن آبائهم و اسرهم وقراهم! كم من اختلاف بسيط في المواقف السياسية، أو في الرأي، ولّد قطيعة أبدية ما بين أصدقاء الأمس الذين صاروا أعداء اليوم!. 

دققوا في تعليمنا، و في خطب الأئمة في جوامعنا. من لم يسمع بدعاء :” اللهم فرق شملهم و يتم أولادهم و اجعل نساءهم سبايا لنا.”  هل هذه الأدعية من مكارم الأخلاق في شيء؟ ألم تكن تحريضاً على الكراهية؟ ألم يزرع كل هذا الكراهية فينا تجاه هذا الآخر؟ بلى زرع فينا الكراهية، و زرع بمجتمعنا حقول الألغام التي انفجرت فينا و قتلت منا أكثر بكثير مما قتلت ممن لم نتوقف عن الدعاء عليهم.  

كم تعودنا على تقييم الناس وفقاً لأصولهم وليس أفعالهم و إنجازاتهم؟ أتذكر محادثة قبل عقدين بيني و بين شخص من قرية صغيرة. كنت أريد أن أدخل الفرح إلى نفسه بأني اكتشفت طبيباً من قريته حقق نجاحاً باهرا في بلد الإغتراب. سألني عمن تتحدث قلت له عن فلان. أجابني يعني إبن فلان الفلاني؟ (حتى لا أذكر أسماء). قلت نعم. نظر إلي نظرة عتاب، و ربما استهجان و لوم لا أنساها وقال: “هاد اللي كان أبوه عايش في القبة من طين”. قلت مجددا نعم. هز برأسه قائلا “عال والله! ،  يعني ابن فلان صارلو قيمة”.. أظن أن ذلك “الفلان” لو أصبح رئيساً لدولة أوربية لبقي في ذهن كثير من أولاد قريته ابن ذلك الرجل الذي كان أبوه يعيش في قبة من طين. ولا أزال أذكر الدهشة و الاستغراب التي أصابت كثيرين منا لدى انتخاب الأمريكيين أوباما. ولسان الحال يقول: ذلك “العبد” صار رئيسا. فإلى ماذا يشير هذا؟ هل يشير إلى التعاطف مع الفقراء، او مع سود البشرة، أم يشير نظره التعالي ضدهم؟ 

في تعليمنا باطل كبير. أي تعليم يستخف بالآخر باطل مهما كان مصدره. التعليم الذي يحض على الكراهية و الثأر والانتقام باطل مهما ظهر باسم الدين أو القومية أو الوطنية. “لنا الصدر دون العالمين، أو القبر” كلام باطل وتافه ولا يستحق النظر إليه إلا من زاوية أنه نموذج للتكبر الأجوف. فنحن عوضا عن هذا التصدر المزعوم، نتابع في الهبوط إلى أسفل السافلين! و ربما بسبب هذه الأوهام عن حقنا الطبيعي بالصدارة، لم نعمل، و لم نحاول أن نطور فكرنا، و لم ندرس عيوبنا كي نتقدم و كي يكون لنا مكان بين شعوب الأرض التي سبقتنا. 

أُفضل ألف مرة أن أتعلم التعاطف من تلك الإنسانة؛ رئيسة وزراء نيوزيلندا، و كيف نزعت فتيل انفجار كبير، من أن أتعلم الكراهية من أي رجل دين، أو سياسي، او مفكر لا يعرف غير التفاخر و بث الحقد تجاه الآخر. لا أقبل بفكر قومي يضع القومية العربية فوق كل القوميات. فالقومية العربية قومية من القوميات و ليست أفضل من غيرها. فكلنا بشر ولا فضل لأحد إلا بما يقدمه من إنجازات تفيد الانسانية جمعاء. لا أقبل بأي عقيدة أو أي تعاليم تعلمني بأنني الأفضل فقط لأنني عربي، أو لأنني سوري، أو لأنني مسلم أو مسيحي. الإنسان الأفضل هو من يتمسك بإنسانيته و يتعاطف مع معاناة غيره لأنهم بشر و يجب أن ينصفوا كبشر. الإنسان الأفضل من يمد جسور التفاهم والتعاطف نحو الآخر، وليس من يزرع بذور الحقد و الكراهية بين الناس.

Print Friendly, PDF & Email