حوارٍ بين رجل دين و إمرأة مومس (Dialogue between a cleric and a prostitute)

Dialogue
بقلم منذر هنداوي

أتذكر هذا الحوار قبل ٣٥ سنة على إحدى قنوات التلفزيون في إنكلترا. جرى الحوار حول تشريع مهنة الدعارة، وانضم إلى الحوار موظف الضرائب، علاوة على مشاركين عبر الاتصال بالهاتف. سأل مدير الجلسة الراهب عن رأيه بتشريع هذه المهنة. أجاب الراهب بهدوء وعدَّد مضار الدعارة على العلاقة الزوجية، وعلى مستقبل الأسرة و الانحرافات عند الشباب. ثم تحدث عن القيم الاخلاقية في المجتمع التي تسمح بأن تبيع إمرأة جسدها. أتى الدور على المومس فردت بالتفصيل بأن عملها لا يتعارض مع الأخلاق، إذ أنها تساهم بدور مفيد في المجتمع بما تقدمه من ترفيه للرجل غير الراضي عن علاقته الحميمة مع زوجته، و بالتالي فإن عملها يساهم في حفظ الأسرة وليس هدمها. وعددت بعض الفوائد الأخرى، وأنها تدفع ضريبة دخل أعلى من غيرها. و طالبت بسن قانون يسمح بالدعارة، مثل هولندا، لتتمكن العاملات بالمهنة من تأسيس نقابة تدافع عن حقوقهم. ثم شرحت النفاق في القانون الإنكليزي الذي يحرِّم الدعارة مما يضطر المومس أن تكتب اسم مهنتها “model” أي عارضة تعرض جسدها لمن يريد ان يرسمها أو يصورها. لكن الجميع يعرفون ضمنياً أنها تُمارس الدعارة. جاء دور رجل الضرائب فأقر أن مهمته حسب القانون تقدير الدخل الحقيقي للمواطن. و لذلك فإنه يفرض الضريبة وفق دخلها الحقيقي كمومس وليس كعارضة. و هذا يعني ان الضريبة عليها أعلى من العارضة. هنا اعترضت المومس و قالت: اعترفوا بمهنتي قانونياً، ثم طالبوني بدفع الضريبة المستحقة.. استمر الحوار لمدة ساعة. تمت خلاله اتصالات من مسؤولين و مشاهدين. منهم من اعترض على سن قانون للدعارة و منهم من وافق. 

تابعتُ، أنا السوري، ذلك الحوار بما يشبه الصدمة في رأسي. ففي بلدنا تعودنا أن نتحفظ على مجرد ذكر كلمة “مومس”، أما الحديث مع مومس فيمكن النظر إليه كنجاسة. فما بالك أن تشاهد راهباً يتناقش مع مومس أمام العالم!؟. لكن الراهب في تلك المحاورة لم يكن يشعر بتلك النجاسة. كنت وأنا أتابع الحوار، أتفحص تعابير وجهه وأدقق بكل كلمة يقولها، و كل إشارة تصدر عنه. لم ألاحظ أنه حاول شيطنة تلك المومس، أو سخر من كلماتها و حججها، أو رتفع صوته عليها. لم ينظر لها نظرة شذر و احتقار، ولم يستفزها أو يسيء إليها بأي شكل. كان يتحدث معها باحترام كما لو كانت راهبة، رغم أنه يرى الشيطان في مهنة الدعارة التي تمثلها ويقف ضد تشريع هذه المهنة.

انتهت الجلسة، لكن بقيت في ذهني تلك القدرة على النقاش بين قطبين على طرفي نقيض. في بلادنا فروقات هامشية لا تصل الى هذا المستوى من التناقض، لكنها يمكن أن تدفع الطرفين المختلفين بسهولة نحو العداء. فنحن لا نعرف كيف نتحادث حول خلافاتنا. كثير من خلافاتنا يمكن أن نحلها بالتجاهل تاركين للزمن حلها. لكن الزمن كثيراً ما يغدر بِنَا و يفاجئنا بحلول كارثية لم نتوقعها. من كان يعلم أن الزمن يحمل لنا في سورية هذا المصير؟ أليس ما وصلنا إليه كان نتيجة ضعف قدرتنا على طرح خلافاتنا للنقاش و التفاهم حولها!؟ دققوا بأبسط أحاديثنا. ألا تلاحظون أننا في معظم الأحيان ما أن نبدأ النقاش حول موضوع خلافي حتى ترتفع أصواتنا ضد بَعضنا. و إذا تمكنا من قطع مسافة صغيرة دون تلاسن يتزايد الاحتقان بداخلنا ثم ما نلبث أن ننفجر. كم هو سهل علينا أن نذهب إلى شيطنة بَعضنا. كم هو سهل علينا أن نترك الحوار بالكلمات لننتقل إلى الحرب بالكلمات. ومن يدري قد ننتقل بعدها إلى الحرب بالطلقات. 

قد ينتقدني بعض الأصدقاء لمجرد ذكر هذه المناظرة حول تشريع الدعارة على صفحتي. لكنني بالحقيقة تعلمت منها أنه لا يوجد شخص بالكون كله لا يجوز الحديث معه. فالحديث الهادف إلى الفهم و التفاهم يجب ألا يُقصي أي راغب جدي بالحديث بقصد التفاهم. أقول الحديث “بقصد التفاهم”، و ليس بقصد المماحكة والملاسنة و المكاسرة. ليس بقصد الحوار على طريقة  برنامج الاتجاه المعاكس. لم احترم يوما برنامج فيصل القاسم، لكن عقلية القاسم موجودة بيننا بكثرة. انظروا حولكم و عددوا كم يوجد في مجتمعنا رجال مثله لا همّ لهم غير التهويش والإثارة. وكم متحاورين بيننا يشبهون المتحاورين في برنامجه لا هم لهم غير المنازلة و المكاسرة. ساعة استماع لبرنامجه كفيلة أن تنقلنا الى عالم الغابة والتوحش. وإني لأَجِد في حوار تلك المومس مع الراهب قيمة تفوق ألف مرة قيمة برامج المهاوشات والتزلف والكذب والتزوير. 

يبقى السؤال مطروحاً علينا: هل سنحاول أن نتعلم بعد كل هذه المآسي من طرح قضايانا بشيء من الهدوء و المصداقية و بدون استفزاز!؟ وهل سنحاول أن نتعلم ان نستمع لبعضنا ونفهم مواجع بَعضنا، و نحل كثيراً من مشاكلنا بالحديث الجدي و بالتفاهم؟ أم سنظل نتابع إقصاء الآخر وشيطنته و التعالي عليه مستخدمين كل أساليب اللف والدوران والتكتكة بهدف الانتصارات الساحقة على بَعضنا.؟! لكن هذه الانتصارات الساحقة التي تدغدغ دوماً أحلامنا لا تسحق غير الفهم والوعي والحقيقة.

Print Friendly, PDF & Email