بوتين قرر الحرب ولم يستدرج لها

Putin-Ukraine war
بقلم منذر هنداوي

قرأت في عدة مواقع عربية ومنشورات عن مؤامرة الغرب في توريط روسيا واستدراجها إلى الحرب في أوكرانيا بغرض استنزافها كما تم استنزاف الاتحاد السوفياتي سابقا في أفغانستان. هذا الكلام لا يقتصر على محبي بوتين، بل يشمل أيضا كثيراً ممن يكرهونه في بلادنا.

هذا الرأي فيه كثير من التبسيط للعلاقات بين الدول، وتبسيط في طرق اتخاذ القرارات. فهو يصور أن العالم يمشي وفق مؤامرة يرسمها غالباً متآمرون غربيون، وأن مؤامراتهم دائما تنجح. أما نظرية الاستدراج فهي تبالغ بتصوير الرؤساء وكأنهم مجرد أفراد يمكن استدراجهم نحو حروب لا رغبة لهم بها. 

بالتأكيد هناك مؤامرات عبر التاريخ تقوم بها الدول. لكن العالم لا يمشي وفق مؤامرة كونية محبوكة تماما من قبل المتآمرين. هناك مؤامرات تنجح و مؤامرات كثيرة تفشل. بوتين ليس غبيا ليستدرج إلى مؤامرة الغرب كي يقع في المستنقع الأوكراني. لا يوجد في الغرب من يجزم أنه يعرف جيدا كل ما يريده بوتين. الرئيس الفرنسي تصور حتى آخر لحظة أنه يستطيع الوساطة و ايقاف الحرب التي كان بوتين يؤكد كل يوم أنه لا ينوي شنها. لكن ماكرون أخطأ في قراءة ما كان يريده بوتين. 

الشيء الأكيد الذي يعرفه الجميع أن بوتين يريد استعادة مجد روسيا الذي بنته في عصر الاتحاد السوفيتي. طبعا حقه كحاكم روسيا أن يبنيها كما يريد. لكنه أراد أن يبني هذا المجد من خلال القوة العسكرية وإخضاع إرادة الآخرين لإرادته. الجميع كانوا يتابعون دوره في إعادة بناء جيش قوي، و يتابعون حروبه في الشيشان مروراً ب جورجيا واحتلال القرم وصولا إلى هذا الحشد الهائل لجيشه حول أوكرانيا، والذي انتهى باجتياحها رغم كل الادعاءات بأنه لن يجتاحها. بوتين لم يدخل هذه الحرب مكرها، بل رآها فرصة لإعادة مجد روسيا و تغيير الخريطة السياسية في العالم وفق أحلامه. 

الحديث عن استدراج بوتين للحرب يخفف من قيمة فكره وكأنه أحمق يمكن استدراجه إلى مستنقع. بوتين لديه مراكز دراسات استراتيجية ترسم عشرات السيناريوهات، ولديه مفكرون ومستشارون يدرسون ويتوقعون ردود الأفعال المحتملة للغزو الروسي. إنه لن ينتظر منظرين من بلادنا كي ينبهوه أن الغرب يريد توريطه في حرب أوكرانيا كما ورط الاتحاد السوفيتي في أفغانستان. 

في كل الحروب وكل المؤامرات هناك دوما فرص لسوء الحسابات. فكما عرف الفلاح عبر العصور بأن حساب الحقل غير حساب البيدر، فإن حسابات الدخول في الحرب لا تتوافق دوما مع نتائجها. بوتين قد ينجح في حربه الراهنة مثلما نجح في كل حروبه السابقة، لكن أيضا قد يفشل و تخطئ حسابات كل مراكز الدراسات حوله. لا أحد يستطيع قراءة ما سيحدث بشيء من اليقين إلا المنجمين في بلادنا الذين صدق فيهم القول: كذب المنجمون ولو صدقوا. 

أما بالنسبة للغرب المتآمر والمتهم باستدراج روسيا فإن نظرة سريعة تظهر أن الغرب ليس كتلة واحدة تخطط بعقلية واحدة ضد روسيا. ألمانيا مثلا تمتلك أفضل العلاقات مع روسيا، و قد مانعت العقوبات بشدة ضدها. فرنسا وايطاليا لهما مواقف متشابهة ترفض العقوبات وتحاول تجنب الحرب. بولندا اتهمت ألمانيا بالأنانية لرفضها المبالغة في العقوبات وخصوصا إبعادها من نظام سويفت. 

أما بالنسبة أمريكا فهي في حالة تنافس اقتصادي قوي مع الاتحاد الأوروبي، كما تجلى ذلك بوضوح في عهد ترامب. صحيح أن أمريكا يهمها البقاء على أوروبا قوية بنظامها الديمقراطي المتطور، لكنها لا تريديها قوية جدا اقتصادياً لدرجة أن تنافسها على صعيد قيادة العالم. منذ سقوط الاتحاد السوفياتي كانت أمريكا سلبية تجاه التقارب الكبير بين ألمانيا وروسيا. وهذه السلبية هي ما قلل من فرص الدعم الألماني لروسيا و زاد من شعور الغضب الروسي من الغرب عموما. أما فيما يتعلق بموقف أمريكا من الحرب، فرغم أن أمريكا لا تتأثر مباشرة بها بنفس الدرجة التي تتأثر فيها أوروبا فإن هذا لا يعني مطلقاً أن أمريكا تستدرج روسيا إلى الحرب. أمريكا تعرف جيدا أن أي حرب تقليدية مباشرة مع روسيا يمكن أن تتحول إلى حرب نووية. و روسيا تمتلك قدرة ردع نووي يؤدي في حال اندلاع حرب نووية إلى تحطيم متبادل في كلا البلدين، الأمر الذي تتحاشاه أمريكا. كل سيناريوهات الحرب النووية كارثية على كل دول العالم وعلى رأسها أمريكا. لذلك ليس من مصلحة أمريكا الحرب في أوكرانيا، و لا توريط روسيا فيها. 

روسيا بالتأكيد لديها بعض المظالم و الحجج التي تطرحها في علاقاتها مع الغرب. فهي لم تتلق الدعم الذي تصوره غورباتشوف و من بعده يلتسن بعد تفكك المعسكر الشرقي ومن ثم الاتحاد السوفياتي. وروسيا معها الحق فيما يتعلق باقتراب الناتو من حدودها. لكن السؤال هل كل هذا يبرر ل بوتين أن يذهب إلى الحرب؟ الجواب بالتأكيد لا. قبيل اندلاع الحرب كانت هناك وساطات من الألمان والفرنسيين لتهدئة مخاوف بوتين الأمنية. لكن بوتين كان قد اتخذ قراره بالحرب خلافا لكل ما أظهره من استعداد للتوصل إلى حل الخلاف بالحوار وليس بالحرب. 

المظالم التي تحدث عنها بوتين لم تكن أكثر من ذريعة لدخول الحرب وإخضاع أوكرانيا لإرادته. لكن غالبية الشعب الأوكراني ترفض هذه الوصاية عليها. و إذا حصل وتمكن بوتين من فرض إرادته فإن هذا لن يدوم طويلا في عصر انفتحت فيه الشعوب على الديموقراطية وحقوق الانسان كما لم يحصل أبدا في التاريخ البشري.

Print Friendly, PDF & Email