من الخرافة إلى المؤامرة (From myth to conspiracy)

Myths and conspiracies
بقلم منذرهنداوي

مع إشارة إلى واحد من أشهر منظري المؤامرة: ديڤيد آيكِ

عندما نقول عن شخص أنه يخرف نعني بذلك أن قواه العقلية بدأت تخونه و صار ينسى ويخربط بكلام مبعثر لا رابط فيه، وربما أصابه مرض الزهايمر. لكن التخريف لا يقتصر على المرضى. كثيرا من الأصحاء يمكن أن يخرفوا أو يؤمنوا بالخرافات. ف للخرافة جذور في عقول الناس ومعتقداتهم عبر تاريخ البشرية. 

هناك أنواع من الخرافات. منها ما يترك أثرا طيبًا في النفس، ومنها ما يؤذي العقل ويحول دون التبصر جيدا بالواقع كما هو. في النوع الأول من الخرافات أو الأساطير ذات الأثر الطيب يمكن ذكر أسطورة بروميثيوس وهو يسرق سر النار ويعطيها للبشر. من هذه الأسطورة يمكن أن نتعلم أهمية الإيثار والتضحية من أجل الآخرين. فقد تقبل بروميثيوس العقاب الأبدي بحقه من أجل إنقاذ الناس الذين تعلموا كيف يشعلوا النار كي يذيبوا الجليد الزاحف إليهم، و بهذا نجوا من التجمد. كذلك فإن أسطورة طروادة جمعت بين قليل من الوقائع وكثير من الخرافة التي كانت من نسج خيال من تعاقبوا على كتابتها. لكنها بقيت رغم ذلك تدفعنا إلى التأمل والتفكير والتحسب لنتائج ما نقدم عليه، كما تدفعنا إلى التأمل بمكانة الحب في النفس والتضحية من أجل من نحب. هذا علاوة على طرحها مكانة العقل والتعقل في إدارة قضايانا، وهذه كلها مواضيع رغم قدمها ما تزال مطروحة علينا في عصرنا الراهن.

 أما الخرافات المؤذية و الناجمة عن الجهل فلا حصر لها. فمثلا كان كثيرون في الماضي يتصورون أن من تصيبه نوبة صرع قد تلبسه جني. لذلك كانوا يركزون معالجته بوسائل لا تغير من حال مرضه بل قد تزيدها سوءًا، مثل ضربه حتى يخرج الجني منه. لكن الطب اكتشف لاحقًا أن الصرع مرض و وجد علاجات له.  

النوع الأخطر من الخرافات في عصرنا ليس ذلك الناجم عن الجهل، بل عن معرفة أكيدة بنشر الخرافة. فمثلا عندما يدعي مبشرون بين المسيحيين الإنجيليين في أمريكا أن الله أرسل ترامب لينقذ أمريكا فهم بالحقيقة يعرفون أنهم يكذبون و يروجون لخرافة لا تقنع صاحب عقل سليم. هل ترامب الذي بنى ثروته من صالات القمار والنوادي الليلية التي تملؤها الدعارة مرسل من الله؟! ترامب الذي لا يفوت فرصة إلا ويحاول الاستفادة منها كي يزيد ثروته ولو على حساب فقراء العالم مرسل من الله؟ هل قال الله امريكا أولاً حتى يرسل ترامب ليجعل أمريكا أولاً؟! هل الله متحالف مع أغنياء امريكا ضدّ فقراء العالم؟! . أي انحطاط وأي تخريف و تزوير هذا الذي يمارس باسم الدين من قبل رجال دين في أكبر دولة متطورة علميًا و اقتصاديًا في العالم. هذا يطرح سؤالًا خطيرًا: كيف صعد شخص مثل ترامب أو حتى بوريس جونسن إلى الحكم؟ لن اتنطح للإجابة على هذا السؤال فهو موضوع كل مفكر حر ومراجعة كبيرة لكل معني بالحفاظ على الديموقراطية. 

الموضوع المطروح الآن هو: في عالمنا المتطور جدا و في عهد النت التي فتحت لكل الناس فرصة الحصول على المعلومات بشكل غير مسبوق في التاريخ، أقول في هذا العصر كيف استسلم كثير منا لنظريات المؤامرة، و تحديدًا الآن في موضوع انتشار كورونا، رغم كل ما يدحض هذه النظريات على أرض الواقع؟

للإجابة على هذا السؤال ربما يكون الأنسب الرجوع إلى واحد من أشهر مروجي نظرية  المؤامرة في الغرب. إنه الكاتب الإنكليزي ديڤيد آيكِ David Icke. آيكِ يقدم نفسه بدون مواربة على أنه منظر لفكر المؤامرة. وفي انتشار هذا الوباء انتشرت نظرياته مثل النار في الهشيم. تمت ترجمة عدة  فيديوهات و مقابلات له إلى العديد من اللغات في العالم وتم تبادلها بين مئات الألوف و ربما ملايين الناس. لكن قلة من المتابعين دققوا بفكر هذا الرجل و نظرياته التي كانت خلف تفسيراته للمؤامرة. فمن هو ديفيد آيكِ. 

ولد ديفيد آيك في أسرة فقيرة في إنجلترا. أظهر استعدادًا لتعلم كرة القدم وظن أنه يمكن أن ينقذ حاله من الفقر باحتراف كرة القدم. خطى خطوات ناجحة في هذه اللعبة، لكن التهاب المفاصل الذي بدأ يعاني منه أوقف مسيرته الكروية عندما كان عمره ٢١ سنة. بعدها وجد عملا كمراسل رياضي لبعض الصحف المحلية. ثم تدرج إلى إن صار مراسل لل بي بي سي ثم لاحقًا مقدم برنامج رياضي فيها. 

في رحلة تحوله إلى منظر للمؤامرة يروى طبيبه النفسي أن ديڤيد آيكِ أخبره أنه أتى إلى هذه الأرض لتأدية رسالة ما، وأنه واثق سوف يتلقى رسائل من عالم الأرواح. بعد تلك الزيارات للطبيب النفسي بسنة أعلن آيكِ أنه (ابن الله)، وكرر ذلك الادعاء في مواقع مختلفة و منها في مقابلة في البرنامج المشهور Terry Wogan Show ١٩٩١ حيث قدم نفسه كإبن الله، و أصر على أن العالم سينتهي في ذلك العام. سخر الجمهور منه وقتها لادعائه بأنه ابن الرب. كذلك لم تتحقق نبوءته بنهاية العالم. إثر تلك المقابلة و ما تلاها تراجعت شعبية البرنامج الرياضي الذي كان يقدمه مما أدى إلى فصله من عمله من ال بي بي سي. (يشار أنه انتشر في ذلك الوقت حول العالم نبوءات من مصادر متعددة بأن نهاية العالم ستكون قبيل نهاية عام٢٠٠٠ و آيكِ أراد أن يكون سباقاً في هذه التنبؤات). 

بعد فصله من عمله تحول آيك إلى التنظير لفلسفة أسماها فلسفة العصر الجديد والشفاء النشط New Age philosophy and energetic healing ، وبدأ بنشر كتب عن أفكاره ونظرياته. و تدريجيا تحول إلى التنظير للمؤامرة حيث ركز على الكتابة وإلقاء المحاضرات وتعليم ما أطلق عليه  مؤامرة العصر الجديد. New Age conspiracism. يصر آيك على أن الأحداث التاريخية الكبرى ليست مجرد مصادفات بل هي مخططات متأمرين عملوا سرًا على إيقاعها. وهو يعتقد أن الزواحف قد سيطرت على البشرية من قديم الزمان، وأنها قد غيرت شكلها الخارجي لتصبح كالبشر، وهدفها واحد هو: استعباد الجنس البشري. ومن بين هؤلاء الزواحف قادة كبار في العالم ومدراء الشركات العملاقة وممثلون حائزون على جوائز الأوسكار ومطربون حائزون على جوائز غرامي. و أن كل هؤلاء لم يتوصلوا إلى ما هم عليه صدفة بل نتيجة تلك المؤامرة المستمرة عبر التاريخ من قبل تلك الزواحف المستترة. و في كتابه (السر الأكبر) ١٩٩٨ قدم بعض الإثباتات عن دور هذه الزواحف. فقد سرد أنه أجرى مقابلات مع اثنين من البريطانيين الذين أخبروه أن أفراد العائلة المالكة هم في الحقيقة زواحف ذات تيجان. و في كتب أخرى يضيف آيك إلى قائمة الزواحف البشرية المتحكمة الملكة إليزابيث وجورج دبليو بوش  وهنري كيسنجر و بيل كلينتون وزوجته هيلاري. و لا تقتصر مزاعم آيك حول هؤلاء بل يرى في أشخاص مثل بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت، و إيلون ماسك مؤسس تيسلا و صاحب مشروع المكوك الفضائي بأنهما جزء من المتآمرين على العالم. 

في مقابلات لاحقة استخدم آيك ما يشبه الحسابات العلمية في رصد المتأمرين الذين يحكمون العالم. يقول أن ١٪ من العالم يسيطرون على ٩٩٪ من العالم. و أن ١٪ من هؤلاء ال ١٪ السابقين هم من يخططون ١٪ المسيطرين على العالم. أي أن واحد من عشرة آلاف شخص هم من يخطط و يصنع المؤامرات للسيطرة على العالم. ثم يؤكد أن لا شيء يقع في العالم صدفة بل إنه ناجم عن مخطط ومؤامرات هؤلاء الواحد من عشرة آلاف من الناس. بالطبع لا يقدم آيك أي دليل يشرح من هؤلاء المتآمرين، وأين يجتمعون و كيف ينفذون مؤامراتهم عبر العالم. يقدم مؤشرات عامة لا تخلو من المصداقية. لكن ما يبنيه عليها بناءاً هشًا لا يصمد أمام أي فحص. 

في خضم أزمة كوڤيد١٩ انقلبت حياة سكان الأرض رأسا على عقب. لم تتوفر للعالم قيادات بمستوى التحدي الكبير الذي فرضه كورونا. الصين أخفت المعلومات في البداية عن انتشار الفيروس شأنها شأن عدة دول أخرى في العالم. حتى قادة في أكثر دول العالم تطورًا مثل ترامب و جونسون  تخبطوا وأخفقوا بالتعامل مع إنتشار الفيروس. كل هذا ساهم في زيادة إحباط الناس وتراجع ثقتهم بقادتهم.علاوة على كل ذلك فإن كثيرا من الحقائق لم تكن واضحة حول الفيروس ومصدره و نمط انتشاره وكيفية الوقاية منه حتى للمختصين في الأوبئة. لذلك تباينت قليلا نصائح المختصين في البداية حول سبل الوقاية من الفيروس. علاوة على كل هذا تابع الناس بذهول الانهيارات المتتالية للأنظمة الطبية في آقوى دول العالم، حيث لم يكن ممكنا استيعاب ذلك التدفق الهائل من المصابين بالفيروس. 

في ظل هذه الانهيارات للأنظمة الطبية، وفي هذا الذعر والقلق الجماعي ليس مستغربًا أن يصغي الناس لمن يفسر ما يجري بطرق مبسطة واثقة. في مثل هذه اللحظات يمكن أن يخفق كثير من الناس في التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف من تفسيرات لما يحدث. فكثير من الناس لا يمتلكون الهدوء للتفكير بعمق و حذر بحقائق الأمور. هذه الأجواء سمحت ل ديفيد آيكِ، الذي يقدم نفسه دون أن يرف له جفن على أنه إبن الله، أن يتقدم كي يملأ بعض الفراغ بنظرياته المزعومة. 

في هذه الأجواء إنتشرت مزاعم آيكِ أن مؤامرة نشر الكورونا مرتبطة بالمؤامرة الكبرى لتثبيت تكنولوجيا الجيل الخامس للإنترنت G5. فهو يرى أنه بعد أن تمكن المتأمرون باعتقال الناس في كل العالم عبر حجزهم في منازلهم فإن الفرصة باتت مواتية لتثبيت دعائم أو شبكات الاتصال الخاصة ب G5. وأنه متى تم الانتهاء من نشر هذه التقنية فإن البشرية يكون قد انتهى أمرها. ذلك أنه في ذلك الوقت يكون قد آن الأوان للإعلان عن التوصل إلى لقاح ضد فيروس كورونا. وهو يتصور أن هذا اللقاح ضد كورونا سوف يحتوي على رقاقات إلكترونية متناهية الصغر ستحقن في دم جميع الناس لتحقيق أمرين الأول هو الوقاية من الإصابة في الكورونا، و الثاني هو ربط كل شخص دون أن يدري بشبكة الG5 المرتبطة بالأقمار الاصطناعية الموجودة في الفضاء الخارجي. و هكذا يتصور آيك أنه يتم السيطرة على البشر من خلال التحكم بهذه الرقاقات المزروعة بكل فرد، و التي لم يكن حقنها ممكنا لولا ذلك التخويف الهائل والمصطنع من الكورونا. وهكذا، والكلام لديفيد آيكِ، يحقق المتآمرون الذين هم من سلالة السحالي هدفهم النهائي في السيطرة على البشر واستعبادهم حتى آخر الزمان. 

لا شك أن آيك استند إلى بعض الحقائق العلمية في أحاديثه عن النانو تكنولوجي والفضاء الخارجي، لكن نتائجه لا تستند إلى أي مراجع علمية أو إلى نتائج أعمال مراكز بحث. إنها بالمختصر المفيد لا تزيد عن خرافة من خرافات هذا العصر التي تجعل من ترامب رسولًا من عند الله ليحمي أمريكا. وللمصادفة فإن عداء ديفيد آيك لG5 يشبه عداء ترامب لهذه التقنية. لكن الفرق في أسباب الأداء مختلفة. فبينما يعاديها ترامب لأسباب تتعلق بالمنافسة التجارية مع الصين، فإن أيك يعاديها لأنها  في تصوراته جزء من المؤامرة الكونية التي تتشارك قوى خفية في الصين مع قوى خفية في امريكا لتنفيذ المؤامرة الكونية ضد بني البشر. 

ترى لو تم التعرف على ديفيد آيك  أكثر، وعلى خلفية نظرياته هذه هل كان ليلقى هذا الإقبال على فيديوهاته؟. بالتأكيد لا. على الأقل نسبة كبيرة من العقلاء لا يمكن أن تتقبل تفسيرات رجل يتصور أنه إبن الله. و حقيقة شعرت بالخجل من نفسي وأنا أراجع وأقرأ أفكار هذا الرجل واستمع للفيديوهات التي نشرت له. كنت أشعر بالمقت، بل وحتى القرف مما أقرأ. وترددت في التوقف عن المتابعة عدة مرات. لكنني تابعت بغية رؤية مدى هذا التخريف وكيف انجذبت أعداد كبيرة من الناس لنظرياته. أقول هذا وأعترف أن ما أقوله يشبه اعتداء على حق القارئ في تشكيل رأيه. لكن أشعر أن من حقي أن أقول أن هذا الشخص مريض عقليًا أو مصاب بما يمكن تسميته جنون عظمة، أو مهووس يعيش في خرافاته الخاصة.

Print Friendly, PDF & Email