هل فيسبوك خدمة مجانية؟ (Is Facebook a free service?)

Is Facebook free?
بقلم منذر هنداوي

يمكن لأي شخص فتح عدد غير محدود من الحسابات على الفيسبوك باسمه الحقيقي أو بأسماء مستعارة دون أن يدفع قرشًا واحداً. لكن إذا كانت هذه الخدمة مجانية فكيف يمول الفيسبوك نفسه؟ 

يبدو أن هذا السؤال حيّر سيناتوراً أمريكياً. ففي جلسة استماع ومساءلة في مجلس الشيوخ وجه السيناتور أورين هاتش  Orrin Hatch  السؤال إلى مؤسس فيسبوك  زوكربيرغ: “إذا كانت خدمة الفيس مجانية فكيف تكسب المال؟”. أجاب زوكربيرغ وعلى وجهه علائم الدهشة: “نحن ندير إعلانات”.  فقد ظهر وكأن السيناتور لا يعرف كيف تكسب الفيسبوك المال. 

إذا التبست مجانية خدمة الفيسبوك على سيناتور أمريكي فلا عجب أن تلتبس على كثير من الناس في بلادنا. قد يشفع للسيناتور أن عمره ٨٤ سنة، وأنه لم يعد يتفهم جيداً القوة الاقتصادية الهائلة و المتصاعدة للكسب في عالم الإعلان. أيام شبابه كانت قوة الصناعة و الإنتاج المادي الملموس أساس الكسب في النظام الرأسمالي. الآن قوى الإعلان صارت تجني مكاسب لم تكن تحلم بها أعظم شركات الإنتاج المادي. 

و لإعطاء فكرة عن واردات هذه الشركات اقتبس بعض الأرقام مما تنشره الشركات عن وارداتها. شركة فيسبوك حققت خلال ربع السنة الأخير من عام  ٢٠١٨ إيراداً قدره ١٦,٩ مليار دولار. بينما بلغ مجمل إيراداتها لنفس العام ٥٥,٨ مليار دولار. و هذه الإيرادات أتت معظمها من الإعلانات الرقمية. فمثلاً في عام ٢٠١٧ بلغت إيرادات فيسبوك ٤٠ مليار دولار، منها ٣٩,٩ مليار دولار من الإعلانات. أي أن الإيرادات من الإعلانات شكلت ٩٩,٧%  من إيرادات الفيسبوك. (١)

كيف حققت فيسبوك هذه الأرقام الهائلة من إيرادات يدفعها لها المعلنين؟. الجواب ببساطة من زيادة عدد المشتركين بفيسبوك و زيادة الوقت الذي يمضونه على الشبكة. هذا يعطي فرصة أكبر كي يشاهد المتابعون ما تعلنه الشركات والمنظمات وأصحاب الحملات الانتخابية. كلما زاد المتابعون، وزادت مشاهدات الإعلان كلما زاد السعر الذي تتقاضاه فيسبوك من الإعلان. 

و لكي تصل الإعلانات للأشخاص المعنيين الذين يستهدفهم الاعلان تقوم فيسبوك بتصنيف المشتركين فيها الى شرائح وفق وضعهم الاجتماعي ووظائفهم ودراستهم  وجنسهم، وبلدهم، و ميولهم السياسية والدينية وغير هذا من التصنيفات. بهذا التصنيف يتم توجيه الإعلانات لكل شريحة من الناس حسبما يظهره كل مشترك في البروفايل على حسابه، وحسب تفضيلاته و أين يضع اللايكات، ومدة متابعته للمنشورات و الدعايات على الفيسبوك. لذلك إذا فتح شخصان في نفس الوقت و المكان فإنهما سوف يشهدان إعلانات مختلفة وفقا لخلفية كل شخص و ما أظهره من توجهات و متابعات. هذه التصنيفات تساهم في الوصول إلى الأشخاص المستهدفين بالإعلان. 

كذلك فإن هذه التصنيفات تساعد فيسبوك في تحديد الثمن الذي عليها أن تتقاضاه من المعلنين عن إعلاناتهم. فمثلا تصنيف الناس حسب دخلهم أو مكان إقامتهم له تأثير كبير على ثمن الدعاية. فلو تفاعل مليون شخص مع إعلان للسيارات في الصومال مثلاً فإن الثمن الذي تتقاضاه فيسبوك عن الإعلان في هذه الدولة، قد يقلّ عن نفس الإعلان إذا تفاعل معه عشرة آلاف مشترك في النرويج. 

المعلومات عن المشتركين في الفيسبوك ثمينة جداً بالنسبة المعلنين الذين يريدون أن تصل إعلاناتهم لشريحة محددة من الناس بمكان وزمان محددين. وهذه المعلومات يتم المتاجرة بها. مثلًا لقد تمكنت شركة كامبريدج أناليتيكا من تصنيف توجهات ٨٧ مليون شخص تصنيفًا يمكن الاستفادة من سياسياً. وتم ذلك من خلال الحصول على معلومات من الفيسبوك عنهم. هذا التصنيف لعب دورًا في استهداف شريحة كبيرة من الناخبين في أمريكا بالإعلانات الموجهة لكل فرد حسب توجهاته، والتي تشير كثير من التقارير أنها أثرت في انتخابات ٢٠١٦ في أمريكا .(٢)

شركة كامبريدج اناليتكا إضطرت إلى إعلان إفلاسها بعد اكتشاف فضيحتها في استهداف خبيث لشرائح محددة من الناخبين. لكن أعمال التزوير على الفيسبوك وغيرها من وسائل التواصل لم تنته. بل تحولت إلى قضية عامة تثير القلق في المجتمعات الغربية برمتها، فهذا التزوير بات صناعة تدر أرباحا كبيرة، و بنفس الوقت صار أكبر مهدد للديمقراطية. 

لإعطاء فكرة عن حجم الحسابات الوهمية التي يتم منها بث جزء كبير من التزوير، فقد أعلنت فيسبوك بعد فضيحة كامبريدج أناليتيكا أنها عطلت ٥٨٣ مليون حساب خلال ثلاثة أشهر الأولى من عام ٢٠١٨.(٢)  هذا التعطيل للحسابات سيساهم بالحد من والتزوير، لكنه ليس كافياً لمنع التزوير. وتبقى منطقتنا في الشرق الأوسط أرضًا خصبة لتزوير فاضح تقوم به دول ومنظمات لأغراض سياسية. 

المطالبات بضبط التزوير ومنع استهداف الناس بإعلانات موجهة وفق معرفة ميولهم ما يزال قضية كبرى في الغرب برمته. فمن ناحية فإن الليبرالية الاقتصادية، التي تنامت خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تتطلب حرية أكبر لرأس المال، و من ناحية ثانية فإن هذه الحرية طورت شركات عملاقة تكاد تفوق في قوتها مؤسسات الدولة، وصارت تشكل تربة خصبة للتزوير والتأثير على مسار الرأي العام وبالتالي على الديمقراطية ذاتها. مثلاً التزوير المنظم ساهم في إنجاح البركست رغم انه يوجد إجماع بين الاقتصاديين و أكثر شرائح المجتمع أن البركست يشكل خطرا اقتصاديا كبيرا على المملكة المتحدة. كذلك التزوير ساهم في نجاح ترامب الذي لم تتوقع فوزه معظم قراءات الرأي العام قبل الانتخابات. السرّ كما تبين كان في التزوير و استهداف الناخبين المنظم  من شركات تم الكشف عنها مثل كامبريدج أناليتيكا، و شركات لم يتم الكشف عن حقيقة أعمالها بعد. 

حاليا تتعالى أصوات في الغرب للتصدي لهذا التزوير ولهذه القدرة على التأثير في خيارات الناس الذي باتت تمتلكها فيسبوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي عمومًا. حتى على مستوى الأحزاب بات السياسيون يستشعرون هذا الخطر. على سبيل المثال المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية إليزابيث وارين تضع التصدي لهذا التزوير على الفيسبوك في رأس أولوياتها. وأقتبس مما قالته موجهة خطابها للأمريكان حول هذا الموضوع: 

“تتمتع فيسبوك بسلطة لا تصدق للتأثير على الانتخابات و نقاشنا الوطني. لقد سمحت لشخصيات سياسية بالكذب عليكم … في حين أن المديرين التنفيذيين ومستثمريهم يزدادون ثراءً من الإعلانات التي تحتوي على هذه الأكاذيب”. (٣). لذلك فإن هذه المرشحة لا تتوقف عن المطالبة بضبط عمل هذه الشركات العملاقة. وقد وضعت في برنامجها الانتخابي انها لو انتخبت رئيسة فسوف تعمل على تجزئة هذه الشركات إلى شركات أصغر. و تبين إحصاءات التبرعات لحملتها و عينات الرأي أن برنامجها الداعي لضبط عمل هذه الشركات ساعدها في زيادة شعبيتها. هذا يوضح وجود قاعدة شعبية متنامية صارت تخاف من تغول شركات مثل فيسبوك، و من قدرتها على التأثير على خيارات الناس. 

فهل آن أوان ضبط التزوير الذي ازدهر على وسائل التواصل الاجتماعي، أم أننا مقبلون على مرحلة يتمكن فيها التحالف بين شركات الإعلان و وسائل التواصل من زيادة التأثير على اختيارات الناس وخصوصًا اختياراتهم الانتخابية؟ 

لا يمكن نفي أن وسائل التواصل الحديثة شكلت ثورة في التواصل على مستوى الكرة الأرضية. و أنها بالتأكيد فتحت فرصاً غير مسبوقة للشعوب في الدول الفقيرة من الوصول الى المعلومات و التواصل مع بقية أرجاء العالم. لكن لا نعرف حتى الآن ما هو الثمن الذي قد تدفعه هذه الشعوب، بل البشرية جمعاء، إذا لم يتم ضبط هذه الوسائل و الحد من التزوير عليها و اساءة استخدام المعلومات المتوفرة لها عن المشتركين. فهذه الوسائل إذ أثبتت قدرتها على التحكم بنسبة ملحوظة من توجهات الناخبين في بريكست وفي انتخاب ترامب، فإنها بالتأكيد يمكن أن تتحكم بدرجة أكبر بخيارات الناس في مجتمعات مستوى الوعي فيها أقل مستواه في الغرب. عندها قد ندرك أن فيسبوك ليست مجانية بل غالية الثمن، و أن من سيدفع هذا الثمن هم الأفقر و الأقل وعياً.

:ملاحظات

١-

 https://emarketing.sa/إيرادات-خيالية-لـ-فيس-بوك-في-الربع-الأخ/

كذلك 

https://www.statista.com/statistics/277229/facebooks-annual-revenue-and-net-income/

٢-

https://www.facebook.com/801967388/posts/10157222784202389?sfns=mo

٣-

https://www.cnet.com/news/facebook-deleted-583-million-fake-accounts-in-the-first-three-months-of-2018/ 

٤-

https://www.newsweek.com/elizabeth-warren-mark-zuckerberg-facebook-ads-1465086

Print Friendly, PDF & Email