الفساد طاعون العصر (Corruption is the plague of the age)

Plague of corruption
بقلم منذر هنداوي

الفساد يزحف كالطاعون معلنا الحرب على دولة القانون والمؤسسات أينما حلّ. حتى عهد قريب كان الفساد ظاهرة فردية يمارسه منحرفون خارجون على القانون في معظم الدول. الآن يبدو أن الفساد صار ظاهرة منظمة يرعاها رؤساء دول و زعماء سياسيون، وقادة منتخبون. انتخاب قادة فاسدين يظهر مدى تجذر الفساد في المجتمعات. عندما ينتخب قرابة نصف الشعب الأمريكي زعيما فاسدا، مثل ترامب، فهذا مؤشر خطير على مدى تراجع القيم الأخلاقية في المجتمع. معظم من انتخبوا ترامب يعرفون كم هو غارق في الفساد. حزب ترامب الجمهوري يعرف أن ترامب فاسد جداً. لم نسمع من قادة هذا الحزب من يندد بفساد ترامب إلا ما ندر. ربما عندما ستتم محاكمته في مجلس الشيوخ سوف يصوت معظم الجمهوريين، إن لم يكن كلهم، ضد عزله رغم كل الأدلة الدامغة ضده. 

في الغرب صورة نمطية تظهر إسرائيل أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط. لكن نسبة كبيرة من الإسرائيليين أعادوا انتخاب الفاسد جداً نتنياهو عدة مرات. شخص تحاصره ملفات الفساد، و يوجه له الإدعاء العام تهم خطيرة بالفساد، و مع ذلك يستمر في الحكم إلى أن يجد مخرجاً مشرفاً دون إدانة من القضاء. و رغم فساده واستهتاره بالقوانين المحلية والعالمية و تعدياته على حقوق الفلسطينيين ما يزال نتنياهو يمتلك قاعدة صلبة ستظل تؤيده رغم كل جرائمه. فأي واحة ديمقراطية هذه التي تنتخب زعيما فاسداً. 

مما يثير الانتباه أن بعض أركان الدولة العميقة، وخاصة تلك المتمثلة في المؤسسات الأمنية و العسكرية في أمريكا و إسرائيل يقفان صفاً واحداً في كلٍ من البلدين ضد ترامب ونتنياهو. ترامب يعطي الأوامر لكبار الموظفين بأجهزة الأمن و الجيش بعدم التعاون مع الكونغرس في التحقيقات المتعلقة بفضيحة المكالمة مع الرئيس الأوكراني، ومع ذلك يخذله هؤلاء الموظفون و يدلون بشهاداتهم ضده. في إسرائيل يتحالف كبار ضباط الجيش و الأمن للتصدي لنتنياهو، لكن دون نجاح يذكر حتى الآن. رجال أمنٍ تدربوا على حماية بلادهم، يجدون قادتهم السياسيين يعرّضون بفسادهم أمن البلاد للخطر! فكيف لا ينتفضون ضد هؤلاء القادة! إنهم أكثر من يعرف أن الفساد هو الفيروس الذي يفتك بالبلاد أكثر من أي عدو خارجي. 

 ترامب يهدي نتنياهو سفارة أمريكية في القدس مستعديا كل العرب، ثم يهديه الجولان غير مكترث بالقانون الدولي الذي يعترف أن الجولان أرض سورية محتلة. وأخيرا  بومبيو يهدي نتنياهو المستوطنات في الضفة الغربية. أي كرم هذا على حساب الشعوب، و ضدّ كل القوانين الدولية. نتنياهو يرد بالمثل محاولا حفز يهود أمريكا كي يدعموا ترامب. كل هذا الكرم ليس من أجل مصالح أمريكا و لا إسرائيل، بل من أجل صيانة حلف الفساد بين نتنياهو و ترامب على حساب أمريكا وإسرائيل. 

في لبنان و العراق تجاوز الفساد كل حدٍ حتى صار الفاسدون أصحاب حق في تزعم الطوائف. صاروا  يحصلون على مزايا خيالية من نظام محاصصة طائفية قاتل. محاصصة كان القصد منها، ظاهرياً على الأقل، منع سيطرة طائفة على غيرها، لكنها تحولت إلى تحالف بين قادة طوائف فاسدين ضد عامة الناس في كل الطوائف. 

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم يعد الصراع بين الاشتراكية والليبرالية الصراع الأكبر في العالم. الصراعات الدينية والقومية ما تزال تنفجر من وقت لآخر لكنها لم تعد تؤثر كثيرا في العلاقات بين معظم دول العالم. الحروب التجارية تندلع من وقت لآخر لكن الدول ما تزال قادرة على ضبطها و إيجاد حلول لها. الفساد العالمي المنظم بات الخطر الأكبر على البشرية جمعاء. إنه فساد بات يقسم العالم إلى فريقين فريق الفساد في مواجهة فريق النزاهة. 

كل فاسد في العالم، بغض النظر عما إذا كان يحب اميركا أو يكرهها، سوف يرحب بانتصار ترامب، فانتصار ترامب هو الانتصار للفساد في العالم. وكل نزيه في العالم سيفرح بعزل ترامب، لأن عزله ضربة قوية للفساد في العالم. لذلك لا تصدقوا الفاسدين عندما يتقاتلون مع بعضهم البعض. مصلحتهم في الفساد تجعلهم يتحالفون متجاوزين قومياتهم ودياناتهم وعقائدهم. كذلك لا تتفاجأوا أن تروا حلف الفساد يضم أناساً هم بالظاهر اشتراكيون و ليبراليون، و متدينون يهود ومسيحيون ومسلمون وبوذيون وغيرهم، لكنهم بالمضمون بلا أي دين ولا مبدأ. فدين الفاسدين هو الكذب والفبركة والغدر والاغتصاب. 

في هذا العالم تستطيع دوما أن تجد اشتراكياً عادلاً، و ليبرالياً عادل، و رأسمالياً عادلاً، ومتديناً عادلاً وملحداً عادلاً. بل أكثر من كل هذا يمكن أن تجد مستبداً عادلاً، لكن لا تستطيع مطلقاً أن تجد فاسدا عادلاً. الفاسد دوما ظالم. طبيعة عمل الفاسد هي التظاهر بالعدل بينما هو أكبر ظالم. إنه يتظاهر باحترام القانون بينما هو أول من يتحايل على القانون. يتظاهر بالشرف والأخلاق وهو بلا شرف ولا أخلاق. 

رحلة صعود الفاسد إلى الأعلى هي رحلة التخلي عن كل ما هو إنساني في ذاته. إنها رحلة تسلب من الشخص الفاسد ما زُرع في الإنسان من رحمة ومحبة الناس، ليصبح حبه الوحيد حب ذاته. لذلك ترى الفاسد لا يحب أقرب المقربين إليه بقدر ما يحب خضوعهم له. حتى علاقة الفاسد بامرأته تصبح أقرب إلى البغاء. فكيف يمكن لغريق في حب ذاته أن يحب غيره!. الرجل الفاسد لا يحب المرأة لذاتها بقدر ما يحب اغتصابها والاستمتاع باذلالها.

حتى حب الفاسدين للمال يختلف عن حب الناس العاديين لجمع المال. الشخص الفاسد لا يحب اكتساب المال بالطرق المشروعة بقدر ما يحب اغتصابه عنوة من الآخرين. لذلك عندما يعرض بلومبيرغ ١٠ مليارات دولار على ترامب كي يستقيل و يغادر فإن ترامب لن يقبل. فكيف يستغني عن متعة التزوير وإخضاع الآخرين!. 

علاقة الفاسدين ببعضهم البعض ليس علاقة ثقة واحترام متبادل، بل علاقة تبادل مصالح مجبولة بالفساد. كل واحد منهم يحمي نفسه بواسطة مستمسكات على الآخرين. عندما انتبه جولياني، محامي ترامب، ان ترامب يمكن أن يضحي به صرح أن لديه “تأمين”، أي لديه مستمسك على ترامب يمكن أن يظهره إن حاول ترامب التخلي عنه أو الإيقاع به. هذه هي العلاقة بين الفاسدين. إنها علاقات ليس فيها محبة و لا احترام متبادل، بل فيها دسائس ومستمسكات ضد بعضهم البعض كي لا يدعي أحدهم الشرف وتنهار منظومة فسادهم. 

في الوقت الراهن قد لا تستطيع دولة الانتصار عسكريًا على أمريكا، لكن تغول الفساد فيها كفيل بتفكك أمريكا من الداخل وهزيمتها من أقرب منافسيها. العرب في وضعهم الراهن لن ينتصروا على إسرائيل، و لن يستطيعوا استرجاع حقوقهم المسلوبة، لكن تغول الفساد في إسرائيل هو من سيقهر إسرائيل. البلاد العربية سوف تتشرذم و تغوص بمزيد من البؤس إذا لم يتمكن العرب من محاربة الفساد. فهل من صحوة عالمية ضد الفساد الذي بات يهدد البشرية جمعاء؟! هل من تحالف عالمي من عقلاء في كل دول العالم ومن كل قومياته وعقائده واديانه ومذاهبه ضد الفساد؟! 

أخيراً أتمنى أن يقوم مهتمون بدراسة حروبٍ دولية وأهلية كان للفساد الدور الأكبر في إشعالها. بالتأكيد سيجدون الكثير من هذه الحروب عبر التاريخ. 

Print Friendly, PDF & Email