لماذا ندرس التاريخ؟ (Why do we study history?)

Why do we study history?
بقلم منذرهنداوي

١

صحيح أن علم التاريخ هو خلاصة عمل تخصصي للمؤرخين، لكن كل إنسان معني بالتاريخ، و يستخدم معلومات تاريخية في بناء رأيه، وهو بأوجه كثيرة إبن التاريخ. في بنيتنا الجسدية كثير من مورثات أجدادنا. في أفكارنا ونمط حياتنا وتقاليدنا كثير مما ورثناه من ماضينا. عندما نبني رأياً نرجع إلى أفكار غيرنا التي تعلمناها وحفظناها لنقدم رأياً مدعماً بآراء من سبقونا. لا يمكن قراءة الواقع وفهم احتمالات تطور المستقبل دون الاستعانة بدروس من التاريخ. صحيح أن الماضي مضى وانتهى، لكن كثيراً منه يمضي فينا و يؤثر في عواطفنا و تفكيرنا. إلا أنه رغم حضور الماضي فينا فإن تأثيره يختلف من شخص ومن مجتمع إلى أخر. هناك من يستعيد الماضي من أجل التفاخر والتعويض عن عجزه في فهم الواقع والتأثير فيه، وهناك من يستعيده من أجل تعلم الدروس منه لتجنب الوقوع في أفخاخ أوهامنا التي تحول دون رؤيتنا لحقائق الأمور في الواقع. هناك من لا يرى من الماضي إلا الرماد، أو الأطلال، وهناك من لا يكف عن البحث تحت الرماد عن الجذوة المتقدة في ذلك الماضي كي يستنير وينير فيها.

التاريخ ليس رواية تسجل إنجازات و بطولات وسجايا ذلك القائد أو المفكر أو الخليفة أو الإمام. ولا هو سرد لمجريات الملاحم الكبرى التي حصلت في الماضي لكي نعيد تمثيلها أو كي نتباكى عليها، أو نتفاخر بها، أو كي نتشاتم و نتذابح من أجلها. دراسة التاريخ غير هذا. إنها دراسة مجمل الأسباب و الظروف التي أدت إلى ظهور قوى التغيير في كل عصر، وأدت إلى نشوء الوقائع الكبرى التي رسمت مسارات التاريخ. المؤرخ معني بفهم قوى التغيير الصاعدة في المجتمع، وبدراسة التطورات في الفكر والمعتقدات الدينية والعلاقات الاجتماعية للمجتمع الذي تتم دراسة تاريخ التحولات الكبرى فيه. والهدف من كل هذه الدراسة ليس شيطنة أو تأليه قادة ساهموا بصناعة التاريخ، بل فهم مجمل الظروف التي دفعتهم للتصرف وفق ما تصرفوا به. 

في العودة إلى الماضي قد نعيد إكتشاف عظمة رجال مؤثرين في صنع التاريخ البشري، و قد نضع تماثيل لهم في الساحات والمتاحف، لكن هذا ليس هو الهدف من العودة إلى التاريخ. فالهدف يبقى دائما أخذ العبر مما مضى للتعامل على نحو أفضل مع الواقع من أجل البناء لمستقبل أفضل. أسوأ ما نفعله تجاه قادة كان لهم دور كبير في صنع التاريخ هو الاستمرار في التغني بما قالوه وما فعلوه وكأن أرواحهم تمثلت فينا، أو كأننا نحن الآن نصنع ذلك الماضي الذي صنعوه!. من يهتم بفهم التاريخ والاستنارة به عليه أن يخفف من التغني بأبطاله، ومن شيطنة خصومه التاريخيين. بالمقابل عليه التركيز على فهم مجمل الظروف التي أدت إلى ظهور هؤلاء القادة، ولماذا اتخذوا القرارات الكبرى التي ميزت مسيرتهم.

صحيح أن كثيراً من الماضي يمضي فينا، لكنه لا يسيّرنا وفق خطة محكمة لا نستطيع الخروج عنها. نحن البشر نعيش في واقع، ونصنع حياتنا ولا يمكن أن نكون نسخاً مكررة عن أجدادنا. نأخذ شيئاً مما توارثناه و تعلمناه من الماضي، لكن لدينا مساحة كبرى لصنع حياتنا وفق ما نريد. نحن لسنا روبوتات تمت برمجتها في عهد ما من ذلك الماضي. نحن بشر نفكر ونتعلم و نساهم بصنع عالمنا، ونبني علاقات تحددها ظروف حياتنا، ونتكاثر ونكتشف ونطور ثقافة وفنوناً وعادات واختراعات لم تكن موجودة في ماضينا. نحن نصنع تاريخنا الذي لن يكون نسخة مطابقة لتاريخ من سبقونا. قارنوا كم تغيرت جوانب كثيرة من حياة الناس ومن مفاهيمهم عما كانت عليه حياتهم قبل نصف قرن. عددوا كم من آلاف الكلمات التي دخلت بالاستعمال اليومي في حياتنا خلال العقد الماضي بسبب النت والاتصالات والفيسبوك وغوغل وغيرها! أليس لكل هذه التغيرات أثر كبير على سبل عيشنا وعلاقاتنا وتفكيرنا وطموحاتنا و نظرتنا إلى هذا العالم!؟

العودة إلى الماضي و الحنين إلى الماضي فيه اشياء جميلة يمكن أن تنعش الروح وتشعل الخيال وتحفز على الإبداع والتطوير في الأدب و الفن والشعر والموسيقى. لكن دراسة التاريخ ليست معنية بإشعال الحنين للماضي. دراسة التاريخ هي دراسة الظروف والأسباب التي أدت لمسيرة التاريخ بالطريقة التي سار فيها. رحلة الاكتشاف و التقصي في أعماق التاريخ تضيء لنا كثيرا من الأسرار المجهولة عن تطورنا و كيف وصلنا إلى ما نحن فيه، وكيف يمكن أن نحسن مسيرتنا في المضي إلى الأمام. 

المؤرخ الذي يدرس صعود الإمبراطوريات، أو الأحداث التاريخية الكبرى المؤثرة في التاريخ لا يستطيع أن يعزو كل ذلك لعبقرية بعض القادة الكبار في التاريخ. صعود الإمبراطورية المغولية مثلاً لا يمكن أن يعزى إلى عبقرية جنكيزخان، رغم ما يقال عنه أنه كان من أكبر عباقرة الحروب في التاريخ. فالتاريخ معني بدراسة كل الظروف الاقتصادية و الاجتماعية لقبائل المغول، وأسرار القوة القتالية التي تميزوا فيها، و صراعاتهم فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين العالم المحيط بهم من جهة ثانية. أكبر إهتمامات المهتمين بدراسة التاريخ هي فهم هذه الظروف التي ساهمت بتكوين جنكيزخان.

 بنفس القدر فإن المؤرخ الذي يؤرخ لهذا العصر الذي نعيشه لا يمكن أن ينسب ثورة النت و الكمبيوتر والاتصالات والتواصل الاجتماعي إلى عبقرية بيل غيتس و ستيف جوبز و مارك زوكربيرغ، بل إلى عصرٍ وصل فيه التطور والإبداع البشري حدوداً مكنت لعبقرية هؤلاء المبتكرين أن تعطي و تنجز ما أنجزته. 

٢

في واقع الانحطاط الذي تعيشه بلادنا تشوهت أشياء كثيرة فينا و في فكرنا. نظرتنا للتاريخ فيها تشوه كبير. عندما نعود إلى التاريخ فإننا على الأغلب نعود كي نعظم و نبتهل بذلك القائد، أو كي نشيطن ذلك الخصم و نلعنه. لكن التعظيم و الشيطنة ليستا من اهتمامات علم التاريخ. إنهما من اختصاص الإعلام المشوه المستعد دوما للتزوير والمبالغة لتناسب أغراض مموليه. التعظيم و الشيطنة لسان حال الجمهور والأتباع الذين استعاضوا عن التفكير بالطرب. و أي طرب ينطرب له الأتباع عندما يتذكرون أبطالهم! و كم من مبالغات بسرد سجايا هؤلاء الأبطال تصل إلى رفعهم فوق البشر، وإلى مستوى الآلهة! أليس هكذا كانت تُصنّع آلهة الجمهور؟ ربما أكثر شيء مازال يمضي فينا من الماضي السحيق هو هذا التصنيع لإله من بشر. 

المنظمات المتطرفة التي تحاول أن تعيش في الماضي و تستنسخ أفعال المسلمين الأوائل و طرق عيشهم و لباسهم وأفعالهم لا علاقة لها بفهم التاريخ، ولا بأخذ العبرة من دروسه. هؤلاء المتشبهين بأبطال الماضي هم ببساطة لا يعرفون العيش في الواقع. يعيشون ويتكاثرون في الواقع، و يستخدمون أحدث ما أنتجه العصر من منجزات متطورة، لكنهم لا يَرَوْن أن التغيير والتطور من طبيعة هذا الكون، وأن علاقات الناس تتغير وتتطلب تجديدا في القوانين التي تحكم علاقاتهم. إنهم لا يَرَوْن غير أشباح ماضٍ حنطوه في خيالاتهم وسلبوا منه روح التطور. 

حتى الآن ما يزال معظمنا ينظر إلى معارك المسلمين الأوائل فيما بينهم كصراع بين حق وباطل. قليلة جدا تلك الدراسات التي تشرح الظروف الاقتصادية والاجتماعية وصراعات أصحاب المصالح الكبرى واستخدامهم عباءة الدين من أجل خدمة تلك المصالح و توسيعها. حتى الآن ما تزال هذه الرؤية المشوهة للتاريخ تغذي صراعاتنا وتستهلك كثيرا من طاقاتنا. عوضا عن أن نركز على إعادة فهم التاريخ والبحث عن جذوة الفكر المتقدة فيه، نبني الجيوش كي نحارب و ننتقم الآن ‘لأبطالنا’ الذين رحلوا، والذين بالتأكيد لا نعرفهم رغم تغنينا بامجادهم. 

المهتم بدراسة التاريخ لا يمكنه دراسة التعاليم التي أتى بها الإسلام دون دراسة ظروف حياة المجتمع الذي ظهر فيه الإسلام. الإكتفاء بوصف العرب قبل الإسلام بالجاهلية لا يكفي لفهم مجتمع قريش. ففي كثير من المعاني كانت قريش متطورة ومتعلمة أكثر بكثير من المجتمعات التي عاصرتها. تطور اللغة العربية قبل الإسلام يدل على تطور فكري كبير. هذه اللغة لا يمكن أن يكون قد طورها أعراب يرعون الغنم في البادية. هذا اللغة خلاصة مجتمع اجتمعت له كثير من عناصر التطور. 

تطور التجارة العربية يظهر جوانب كبيرة من ذلك التطور في مكة قبل الإسلام. و قد ذكر القرآن الكريم من هذه التجارة رحلة “الشتاء والصيف” التي كانت تذهب إلى الحبشة و اليمن شتاءاً، و إلى بلاد الشام صيفاً . لكن قوافل التجارة العربية وصلت أبعد من هذا، إلى الهند و السند قبل ظهور الإسلام بعدة قرون. تجار قريش كانوا ربما بمفاهيم ذلك العصر من أغنى أغنياء العالم. إحدى قوافل أبي سفيان، التي هاجمها المسلمون وأدت إلى موقعة بدر، كانت تحمل بضائع محملة على ألف بعير. تأمل كم كانت قيمة البضائع المحملة على تلك القافلة، وكم كانت تجنيه من أموال! و كم كانت تحتاجه من قوات حماية عسكرية تحميها في ترحالها ألاف الكيلومترات! تأمل كم كانت تحتاج  القوافل من معرفة بجغرافية البلاد و بطبيعة الشعوب التي تتنقل فيما بينها وتتاجر معها!

 ثراء أهل مكة الهائل أتى من التجارة التي كانت تجارة عالمية بمقاييس تلك العصور، حيث كانت تجوب مناطق واسعة من العالم. اللغة العربية المتطورة جداً و التي استخدمها أهل مكة كانت نتيجة تفاعل فكري مع نخب فكرية في البلدان التي كان العرب يتاجرون معها. التجار كانوا إذ ينقلون البضائع الثمينة للملوك والأغنياء في بلاد فارس و الرومان و الحبشة و الجزيرة كانوا ينقلون معهم معارفهم، ويتعلمون كثيراً من معارف المجتمعات التي يتاجرون معها. النبي محمد كان يقود تجارة زوجته خديجة قبل الإسلام. و أثناء ترحاله كان يلتقي بتجار وأصحاب فكر في الأسواق التي يبيع فيها بضاعته و في الأماكن التي يستريح فيها أياماً من رحلة تدوم أشهراً. كل هذا ساهم بصقل معارفه و تطوير رؤيته للعالم الذي كان يتنقل فيه. فالأسواق لم تكن مجرد أماكن للبيع و الشراء، بل كانت أيضاً بمثابة منتديات تلقى فيها الأشعار و الخطب، و تتم فيها الحوارات، كذلك كانت مضماراً  للفروسية والمبارزة بين الفرسان كما كان سوق عكاظ مثلا. 

علاوة على كون التجارة مصدر ثراء مادي و فكري فإن حمايتها كانت عاملا كبيراً لتطور قدرات عسكرية كبيرة لدى العرب. انتصارات العرب السريعة بعد الإسلام على الفرس والرومان تشهد أن من حققوا تلك الانتصارات ليسوا رعاة إبل في الصحراء، بل عسكريون تعلموا أفضل فنون القتال من خلال حمايتهم لقوافل التجارة التي كانت تقودها قريش. خالد بن الوليد يصنفه الدارسون للفكر العسكري كواحد من كبار عباقرة الحروب. قراره بقطع الصحراء الوعرة المهلكة من جنوب العراق إلى الشام لمباغتة جيوش الروم من الخلف كان له الدور الحاسم في التغلب على الروم ونهاية دولتهم في بلاد الشام. فهل مثل هذه العبقرية العسكرية وليدة بدو في الصحراء! أم وليدة تربية عسكرية تراكمت عبر السنين فأنجبت خالد بن الوليد كما أنجبت غيره قبل الإسلام!

لا شك أن معظم عوامل بناء دولة قوية كانت موجودة قبل الإسلام. الإسلام أعطى العرب عقيدةً وحدتهم، والعرب أعطوا الإسلام دولة توفرت لها قبل الإسلام كل مقومات القوة، وساهمت لاحقاً بتوسع و نشر الإسلام. 

٣

أكثرنا يعرف دور النازية، و دور هتلر في الحرب العالمية الثانية. لكن المؤرخ لا يتوقف عند دور هتلر في الحرب، بل يذهب بعيداً ليسأل عن الأسباب التي أدت إلى تلك الحرب. الجواب على هذا السؤال نجده عند مفكرين تنبؤا أن ألمانيا سوف تشن حربا ثانية بعد أن هُزمت في الحرب العالمية الأولى. الاقتصادي الإنجليزي جون كينز تنبأ في كتابه “النتائج الاقتصادية للسلام” والذي نشره عام ١٩١٩ بقدوم حرب ثانية؛ أي أنه تنبأ بالحرب قبل أن يشن هتلر حربه على الحلفاء بعشرين سنة. فقد رأى كينز أن شروط الاستسلام  المفروضة على الألمان وفق ما نصت عليه معاهدة فرساي، كانت قاسية جداً وسوف يصعب على الألمان الامتثال لها لفترة طويلة. فقد قضمت الدول المحيطة بألمانيا قرابة ١٣٪ من أراضيها، و تم تعطيل العمل بمناجم الفحم فيها، ومنعها من تصنيع المركبات العسكرية الثقيلة، و تم إلزامها بإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية لمنعها من امتلاك جيش قوي بالإضافة إلى إلزامها بتعويضات هائلة و قيود كثيرة أخرى. كينز لاحظ أن دولة كبيرة متطورة على كافة الأصعدة مثل ألمانيا لا يمكن أن تقبل بكل تلك القيود و ستجد طريقا للتغلب عليها. لذلك توقع حرباً قادمة نتيجة تلك الشروط المجحفة بحق الألمان. 

نشوة انتصار الحلفاء في الحرب الأولى على ألمانيا أفقدتهم بصيرتهم. أرادوا تكبيل ألمانيا اقتصاديا، وألا تقوم لها قائمة بعد تلك الحرب، فعمل الألمان بكل نشاط، و بنوا جيشاً قوياً مكّن ألمانيا من شن حرب ثانية كادت أن تسحق الحلفاء. هتلر كان نازياً شريراً، لكن حتى أعتى خصومه يعترفون له بعبقريته العسكرية الاستثنائية في التاريخ. الجيش الألماني كان يحتاج هذه العبقرية العسكرية، و ألمانيا كانت تتطلع إلى نصر ساحق على الحلفاء ليس لتسترد حقوقها و حسب بل لكي تهيمن على أوربا. وفق هذا المنظور فإن صعود النازية لا يعزى للشخصية الشريرة لهتلر بقدر ما يعزى للضغط الاقتصادي الهائل الذي فرضه الحلفاء على ألمانيا، والذي طور مناخاً حاضناً للفكر النازي الألماني، وللعقل الألماني كي يعمل بكل جهد ونشاط كي ينتج أفضل المنتجات العسكرية والفكر العسكري المتطور. هذه هي العناصر التي ساهمت بظهور هتلر.

فقط بعد أن دفع كل الأوروبيون ثمناً باهظاً في الحرب العالمية الثانية عاد الأوربيون إلى رشدهم وقرروا جميعاً، الخاسرون منهم والرابحون، أن يكون ذلك الثمن الذي دفعوه في الحرب ثمناً للسلام والتعايش فيما بينهم. تخلوا عن أحلام السيطرة على بعضهم، و نظروا بواقعية إلى مستقبل مشرق، وأسسوا السوق الأوروبية المشتركة كوسيلة لمنع الحرب. لاحقا تحولت هذه السوق إلى الاتحاد الأوروبي.

٤

جمال عبد الناصر توفى قبل نصف قرن تقريبا، و مع ذلك كثير ممن عاصروا ناصر، بل حتى ممن لم يعاصروه، ما يزالون منقسمين ما بين مشيطن أو مؤله له. لكن ناصر ليس إلهاً ولا شيطاناً. ناصر كان نتاج مرحلة تطلعت فيها معظم شعوب العالم الثالث إلى التحرر من قبضة الاستغلال والنهب والجهل. ناصر إبن تلك التطلعات الشعبية العارمة للتغير. حمل مثل جموع الشعب ذلك الطموح بالتحرر، وساهمت الظروف بوصوله إلى قيادة مصر. في عهد ناصر صار التعليم  مجانيا مما منح أبناء الريف والطبقات الفقيرة فرصة دخول مدارس التعليم  لأول مرة في تاريخ مصر. المرأة نالت كثيرا من حقوقها المسلوبة ومنها حق التصويت. تطور الفن و انتعشت الموسيقى والغناء في عهد ناصر، و انتشرت السينما المصرية في كل الدول العربية. وزعت الأراضي على الفلاحين وتم بناء السد العالي، وتأميم قناة السويس. 

عهد ناصر هو عهد نهضة الشعب المصري المتطلع إلى التحرر وإعادة بناء هويته العربية بعد قرون من نهبه واستغلاله من قبل قوى أجنبية و محلية مرتبطة بالمحتل. عهد ناصر هو عهد انتشار القومية العربية بين معظم الشعوب العربية. إنه عهد إكتشاف الشعوب أن سبيل الخلاص من النهب و التهميش كامن في بناء دولة كبيرة قوية لها مكانتها وقوتها بين الأمم. بهذا العهد، بهذا المناخ أتى ناصر، وتمكن من التعبير عن طموح الشعب المصري وتوجه نحو بناء دولة مستقلة قوية. بعد تأميم قناة السويس١٩٥٦، و صدّ العدوان الثلاثي ضد مصر، تحول ناصر إلى زعيم عربي تطلعت إليه غالبية الشعوب العربية الحالمة بالتحرر و بدولة كبيرة تحميهم. 

لم يدم حلم الشعوب العربية طويلاً، فقد تصدع الحلم العربي في هزيمة حزيران ١٩٦٧. رحل ناصر بعدها من الحياة عام ١٩٧٠. السنوات الثلاثة التي عاشها ناصر بعد تلك الهزيمة لم تكن كافية لبلورة مرحلة جديدة. الملايين الذين بكوا رحيل ناصر في كل الدول العربية إنما كانوا يبكون على نهاية أحلامهم في التحرر، و على الدولة الكبيرة القادرة على حمايتهم، وعلى ما ينتظرهم. بكوا قائداً كانوا واثقين أنه لم يكن يعمل من أجل مكسب أو مجد شخصي، بل عمل من أجل التحرير وبناء دولة عربية قوية قادرة على حفظ حقوق مواطنيها. 

كما هو حال الرأي تجاه أي قائد في التاريخ، هناك كثيرون ممن يكرهون ناصر لأسباب مختلفة. هناك من يكرهونه لأن مصالحهم الشخصية تأثرت  سلباً في فترة حكم ناصر. وهناك من يكرهونه لأنهم تعرضوا للسجن أو الملاحقة من أجهزته الأمنية. كثير من نقد هؤلاء لناصر له ما يبرره، و يجب تفهم أسبابه. لا يمكن تصور عهد ناصر بدون أخطاء و بدون إساءات للسلطة من قبل من كانوا حول ناصر، و ربما من ناصر نفسه. مثل سائر البشر ناصر ليس منزهاً عن الخطأ. هزيمة حزيران ١٩٦٧ مثلا كان فيها كثير من الأخطاء القاتلة التي اعترف بها ناصر نفسه بالمسؤولية عنها، وكانت لديه الشجاعة والصدق للاعتراف بتلك الأخطاء. لكن تقييم المرحلة الناصرية لا يستند إلى تقصي تلك الأخطاء دون الرجوع إلى السياقات التي وقعت فيها والأسباب التي أدت لها. كذلك فإن تقييم المرحلة الناصرية لا يمكن إن يكون منصفا دون النظر بما أنجز في تلك المرحلة، و دون تفهم المرحلة التي أتت بناصر. لا يمكن شيطنة المرحلة الناصرية من خلال التركيز على تلك الأخطاء. 

ربما يكون في النقد الموجه لناصر بأنه قتل بذرة الديمقراطية التي أتت بها سلطات الانتداب الأوروبية في بلادنا شيء من الحقيقة. فقد تقلصت حرية الإعلام في عهد ناصر، كما تم حل الأحزاب. لكن هل كانت الديموقراطية مترسخة في مصر وأتى ناصر ونسفها؟ و هل كانت الأحزاب تعبر عن ارادة الشعب الطامح في الاستقلال والتحرر من قبضة القوى التي همشته و استغلته عبر تاريخ طويل؟ هل كانت الطبقة المترفة الحاكمة تأبه لاحتياجات الشعب في التطوير والتعليم وتحسين أحواله المعيشية؟ هل كان الانكليز ليقبلوا ضمن أي ظرف بالتخلي عن إدارة واستغلال قناة السويس؟ المناخ الشعبي لم يكن يأبه بديمقراطية تقتصر على بعض الطبقات المتنفذة في المدن الكبرى، ولم يكن لديه أي ثقة بالإنكليز ولا بسلطة منعزلة عن طموحات الشعب. 

الديموقراطية في مصر لم تكن مطروحة كقضية كبرى مثلما كانت مطروحة قضايا التحرر ومحاربة الاستغلال. شيطنة ناصر بزعم أنه غير ديمقراطي تشبه شيطنة أتاتورك بأنه غير ديموقراطي لأنه بقوة السلاح وحد تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية. لكن رغم استبداد اتاتورك فقد اعتبر مؤسس الدولة التركية العلمانية الحديثة. كذلك تشبه شيطنة ناصر شيطنة بسمارك الذي  “بالحديد والدم”، حسب كلماته، وحد الإمارات أو الدويلات التي تتحدث الألمانية و أسس دولة ألمانيا الحديثة قبل ١٥٠ سنة. 

لا ناصر و لا أتاتورك و لا بسمارك شياطين لأنهم لم يكونوا ديموقراطيين. و لن يكونوا شياطين من وجهة التاريخ الوطني لكلٍّ من الدول التي حكموا فيها، ولا هم شياطين حتى من وجهة نظر مسيرة التحرر والتطور البشري. هؤلاء كانوا جميعاً قادة وطنيين عبروا عن طموحات الأغلبية الساحقة من شعوبهم. لسوء حظ الشعوب في بلادنا أن تجربة ناصر لم تكتمل بل أحبطت بمساهمة فعالة من قبل كل القوى المعادية لتحرر الشعوب العربية. 

انتهت المرحلة الناصرية، لكن الحلم الذي بعثته تلك المرحلة في بناء دولة قوية متطورة قادرة على حماية شعبها مايزال حياً رغم كل الدمار الذي يعم منطقتنا. الآن ندرك في ظل الانهيارات الكبرى التي تعيشها البلاد العربية أهمية بناء الدولة القوية؛ دولة القانون والمواطنة. بدول ضعيفة صغيرة تتقاذفها مصالح الدول الأخرى والمصالح الخاصة لبعض المتنفذين لا يمكن للديمقراطية أن تنمو. فقط بدول قوية قادرة على فرض القوانين المعنية بحماية الوطن والمواطن يمكن للديمقراطية أن تزدهر، وأن تزدهر معها المواهب و قدرات التطوير و الإبداع للمواطنين. بمثل هذه الدولة يتطور التعليم، ويتطور وعي الناس، و تتطور قدراتهم على اختيار ما يلائم تطلعاتهم، و تتطور قدراتهم على ممارسة الديمقراطية بما يخدم ازدهار الوطن. بمثل هذه الدولة يصنع الناس تاريخاً ناصعاً عوضا عن التغني بأمجاد تاريخ لم يصنعوه.

Print Friendly, PDF & Email