ما بين الرقص و الرقوَصة بالسيف (On dancing with swords)

Arab sword emoji
بقلم منذر هنداوي

دعاني أحد الأصدقاء على الفيسبوك إلى مجموعة فيسبوكية. فتحت الرابط فوجدت فرقة عراضة “شعبية”، و شبان بلباس “تقليدي”  يشهرون سيوفهم للأعلى على جانبي مدخل محل لصنع الحلويات. يتوسط الحشد فارس يلوح بسيفه و يحرك جسده على إيقاع الطبل و الزمر. لم يكن رقص ذلك “الفارس”  يشبه أي شكل من فنون الرقص. ربما يمكن تسمية حركاته ب (رقوَصة). نعم رقوَصة خالية من الفروسية ومن فن الرقص بآن معاً. قلت لنفسي وأنا أشاهد هذه السيوف المشهورة، وأصغي لقرع الطبول، وأراقب ذلك التظاهر بالفروسية و العنترية: هل هذه فرقة إعلان حرب؟. إذا كان افتتاح محل حلويات يحتاج إلى فرقة مدججة بالسيوف، فماذا لو كان الافتتاح لمحل شاورما مثلاً؟ ربما سنحتاج عندها إلى فرقة صواريخ حربية!  

تذكرت أنني قبل عشر سنوات حضرت عرساً أحيته فرقة مشابهة، فيها فرسان يترقوصون بسيوفهم، و يرددون بطريقة خشنة أهازيج مثل “زين زين، كحيل العين، واللي يعادينا الله عليييييه”. تساءلت من هو العدو المفترض في هذا العرس حتى يلوحون بهذا الهجوم الحربي عليه .. الله علييييه. هل كان هذا عرسٌ أم استعدادٌ لمعركة؟. أم أننا ربما فعلاً نتصور أن العرس معركة بين رجل وإمرأة، فتطربنا الأهازيج الحربجية.

 ذلك العرس العنتري ذكرني بمشهد مؤلم حقاً: أم تزغرد في مراسم دفن إبنها الشهيد! تصيح بصوت عال هذا اليوم يوم عرسه، وتطلب من الناس أن يحتفلوا و يفرحوا له لا أن يبكوا عليه، تنطلق بعدها زغاريد النساء. لم لا و في أغانينا كلمات نتغنى بها مثل “زغردي يا أم الشهيد”. زغردةٌ لشهيدٍ يغادر الحياة!!  و أمٌ تزف ابنها الشهيد كعريس!! أي انفصام هذا!؟ اَي فرح مزعوم بالموت هذا، بينما القلب يبكي!  أي بطولات مزعومة هذه التي تزيف المشاعر! أي عنتريات هذه بسيوف مرفوعة من تنك. 

ربما شاهد معظمنا ذلك المشهد للرئيس ترامب في احتفال في السعودية حيث رفع المحتفلون سيوفهم في العرضة السعودية. كانوا يحملون السيوف و يتحركون بحركات بطيئة تليق (وما شاء الله) بثقل القادة!. الخدم الذين يَصْبون لهم القهوة العربية يحمل كلاً منهم مسدسين واحد على يمينه، وآخر على يساره. لكن بالتأكيد لا سيوفهم تجرح، و لا مسدساتهم ترمي. فمن يحملون المسدسات الحقيقية و الجاهزة للضرب ليسوا أولئك الخدم حاملي المسدسات الوهمية، و لا الذين  يرقصون بسيوف من تنك، إنما فرق الحرس السرّي الذين يراقبون بدقة كل حركة مشبوهة. 

في زيارة نتنياهو لسلطنة عمان كان السلطان قابوس وبقية المستقبلين مسلحين بخناجرهم، و كأنهم على أهبة الاستعداد للمواجهة مع عدو متأهب للانقضاض عليهم. لكن على من سوف يسحبون خناجرهم و هم داخل قصور محروسة من قبل شركات عسكرية أجنبية خاصة تتقاضى أموالا طائلة للحراسة. أم أن تلك الخناجر سوف تسحب ضد الزائر الحليف نتنياهو!؟ لا سيوف الاحتفالات، و لا تلك الخناجر قادرة على الخدش، فما بالك أن تكون مخصصة للقتال. إنها مخصصة للتظاهر و إحياء ما يتصورون أنها تقاليد من التراث. 

إذا كان من يدافع عن هذه العراضات و السيوف و حمل الخناجر بدواعي الحفاظ على  التراث، فهل كل ما توارثناه ذو قيمة يجب الحفاظ عليه؟. فيما ورثناه قيم و تقاليد جميلة يجب أن نحافظ عليها و نطورها و نقدمها بصيغ حديثة متطورة. لكن هناك تقاليد سيئة يجب التخلص منها. تقاليد الرقوَصة بالسيوف أقل ما يقال فيها أنها مصطنعة، مزيفة، سخيفة، تتظاهر بالعنترية التي تفرغت من أي مضمون مثَّله عنتر. يجب ألا نخاف و ألا نتردد من انتقاد التقاليد بذريع أنها من التراث. فهذه التقاليد ليست مقدسة، بل تحتمل، و تتطلب النقد من أجل التطوير. لم يعد مقبولاً ان يتمشى رجل بخنجر معلق في زناره، أو مسدساً على جنبه. بات مسخرة حمل السيوف في عراضة. و بات قاتلا إطلاق النار في كل مناسبات الفرح و الحزن. بات مقرفاً ترديد هذه العبارات في عرس: زين زين، كحيل العين، واللي يعادينا، الله علييييه. مكان مثل هذه الأهازيج في سلة النفايات. فالعرس ليس معركة، بل مناسبة لتتويج حب بين قلبين. 

إذا كنّا نتمسك بتقاليد رفع السيف فعلينا تطوير فنون المبارزة بالسيف و أن نجري لها المسابقات خارج إطار احتفالاتنا وأعراسنا. بالتأكيد يجب تشجيع من يريد تعلم المبارزة بالسيف كرياضة. فبالنظر إلى أننا في أسفل قائمة الحاصلين على ميداليات ذهبية، فقد يساعد التدريب على حصول أحد شبابنا على ميدالية ذهبية في المبارزة. لكن السيوف التي نراها في العراضة ليست للمبارزة الرياضية، وليست بالتأكيد للقتال الحقيقي. وأجزم أن لا أحد ممن يحملون سيوف العرضة له فرصة في الصمود ثوان في مبارزة كتلك التي نشاهدها في الأولمبياد. فسيوف العرضة للهوبرة والهبوط بالتراث نحو الأسفل. 

إذا كنّا نحب التراث، و نريد الحفاظ على التراث، فيجب انتقاء ما يصلح منه حسب كل مناسبة. إنها مسؤولية الأدباء و الموسيقيين و الشعراء و النخب الفكرية وأهل الرأي أن ينتقدوا هذه التقاليد، و يساعدوا في البحث في التراث عن تقاليد معبرة، غير هذه السائدة. عليهم مسؤولية تقديم بدائل تحاكي أجمل ما في التراث من قيم و ليس المراوحة عند المباهاة بمظاهر الشجاعة الكاذبة. نحن بحاجة إلى تقاليد جديدة راقية ليس فيها إطلاق نار، و لا إشهار سيوف، و لا حمل خناجر، ولا عنتريات. نحتاج إلى إرساء تقاليد للفرح تعطي الفرح معناه، و تقاليد للحزن تعبر بصدق و احترام عن مشاعر الحزن. 

آن لنا أن نفكر كيف نعيد للحزن معناه، و للفرح معناه، و للسلم معناه، و للحرب معناها، و للكلمات معانيها. كفانا مراوحة عند ما وصفه نزار القباني ب بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ، و بعنترياتنا التي ما قتلت حتى ذبابهْ. كفانا ترديد أهازيج دون تدقيق بمعانيها. كفانا الاستسلام لما تصورناه “تقاليد”، فعلينا جميعاً تقع مسؤولية تطوير تقاليد جديدة. علينا ان نقدم للأجيال القادمة هدية من تقاليد تفتح أفقهم نحو التطوير، ولا تكبلهم مثل ما كبلتنا تقاليدٌ لا نعرف كيف اجتاحتنا. 

Print Friendly, PDF & Email