الشرق الأوسط و ترامب (The Middle East and Trump)

Racist Trump
بقلم منذر هنداوي

فضائح ترامب، و تغريداته، و فرص عزله أهم من كل الأخبار في العالم. في الشرق الأوسط الناس مهتمون بأخبار ترامب ربما أكثر من الأمريكين. منقسمون بانفعال حول تقييمه و تقييم أخلاقه و استعداده للحرب. منقسمون بين متفائلين بعزله، و مراهنين على استمراره في مركز قوته. في بقاؤه انتصار لطراف، وفي عزله انتصار لطرف آخر في هذا الشرق. لم لا وكل الأطراف في الشرق الأوسط تدور في فلك السياسة الأمريكية بشكل او بآخر. لكن هذا الدوران في الفلك لا يعني فهم العوامل التي أنبتت ترامب على أرض الواقع الأمريكي. من انتخبوا ترامب يعرفونه أكثر ممن يدورون في فلكه و فلك أمريكا. 

الذين انتخبوا ترامب يعرفون أسلوبه الفظ، ومدى عنصريته و احتقاره لكل من يختلف معه قبل أن يصبح مرشحاً للانتخابات الرئاسية. زادت معرفتهم به بعد فوزه. إنهم يعرفون الكثير عن مصادر ثروته، و إفلاسه المتكرر، وطرق إعادة إحياء ثروته من جديد عن طريق التلاعب بقدرته على سداد الديون. يعرفون الكثير عن مغامراته مع المومسات و مدى سوء أخلاقه، أو بالأصح انعدام أخلاقه. يعرفون مدى كذبه الذي لا يتوقف. إنهم يعرفون جيداً أن دِينَ ترامب هو المال؛ وأنه من أجل المال فإن ترامب مستعد للقفز فوق كل القوانين و كسر كل القواعد الأخلاقية. لا قيمة لحقوق الدول، أو شعوب الدول الأخرى الصديقة أو العدوة لأمريكا. لا قيمة لحقوق الإنسان ولا حقوق الحيوان ولا حتى حق الطبيعة في عقيدة ترامب. معظم من انتخبوا ترامب يعرفون كل هذا وأكثر، ومع ذلك انتخبوه. و ربما من أجل هذا انتخبوه!  السرّ في كل ذلك يكمن في الشعار الذي رددوه بعد ترامب: “أمريكا أولاً”، و لسان حالهم يقول أمريكا أولاً حتى لو ذهب العالم كله إلى الجحيم. هذا هو المنطق الشعبوي القومجي العنصري لاتباع ترامب. إنه منطق قرابة نصف الشعب الأمريكي.

ترامب ليس استثناءاً في اعتبار المصلحة محور السياسة الخارجية. كل الساسة معنيون بحماية مصالح بلادهم حتى لو كانت على حساب الآخرين. ما يميز ترامب عن كثير من السياسيين الأمريكيين هو المجاهرة  بصراحة بهذه المصالح. فبينما يخفي معظم الساسة أهدافهم و يغلفونها بلمسات حول حقوق الانسان و الدفاع عن الديموقراطية فإن ترامب لا يجد أي حاجة لتمويه أهدافه، و لفرض ما يريد بكل الفظاظة و العجرفة و التبجح بالقدرة على فرض ما يريد. 

لا حاجة للمفكرين و الناس عامة في الشرق الأوسط أن يعيدوا اكتشاف لا أخلاقية ترامب، و لا أخلاقية السياسية الخارجية الأمريكية برمتها. فهذه السياسة الخارجية عبر كل تاريخها كانت بالتعريف لا أخلاقية تجاه الشرق الأوسط. انها لم تعبأ يوما بحقوق الإنسان ولا بالديمقراطية في هذا المشرق. إنها تهتم بحقوق الانسان فقط كفزاعة ضد الدول التي يمكن أن تخرج عن طوعها. قد يهمها الاستقرار في هذا الشرق، لكن فقط الاستقرار الذي يؤمن استمرار مصالحها و نهب خيرات هذا المشرق. و لا مانع إطلاقاً إذا كان هذا الاستقرار ناجم عن سلطات استبدادية أو طائفية أو رجعية تحكم بعقلية سكان كهوف ماقبل التاريخ. أما إذا لم يؤمِّن الاستقرار مصالح أمريكا  فلابأس عندها من تحريك فزاعة حقوق الإنسان بوجه هذه الدول، بل لا مانع من إغراق الشرق الأوسط برمته بحروب مدمرة. 

بالتأكيد هذا لا يعني أن أمريكا كلها مجتمعة على هدف واحد وسياسة خارجية واحدة. هناك في أمريكا مفكرون و أصحاب رسالة إنسانية عليا تنظر للبشرية خارج إطار المصالح القومية الضيقة، لكن هؤلاء ليسوا من انتخب ترامب. هؤلاء في وضع صعب و تراجع أمام زحف ترامب وتغلغل شعبوية قومجية في نفوس الأمريكان ليس لها مثيل في التاريخ الحديث غير صعود النازية في ألمانيا. الذين انتخبوا ترامب في نفوسهم الكثير من صفاةٍ ترامب. و بعد أن صار رئيسهم تماهوا معه أكثر وصاروا أشبه بنسخ متكررة عنه. إنهم بالتأكيد لا يعيرون أي اهتمام للاعتبارات الإنسانية أو الديموقراطية في باقي دول العالم. و رغم كل التحقيقات و نشر الفضائح  فيما يخص ترامب فَإِنَّه لو تمت إعادة الانتخابات الأمريكية الآن فإن كثير من التقديرات ترجح فوز ترامب فيها. 

هؤلاء الذين انتخبوا ترامب يعرفونه كما عرف الألمان هتلر عندما انتخبوه. لكن الألمان اليوم، عندما يستمعون  إلى خطابات هتلر يكادون لا يصدقون أن أجدادهم انتخبوه رغم كل العنصرية والاستكبار و الصلف في خطاباته. يذكر جورج لوكاتش في كتابه “تحطيم العقل” كيف كان الضباط يذهبون للاستماع الى خطابات هتلر وهم يتهامسون عليه بسخرية. لكن رغم كل العجرفة في هذه الخطابات فقد كانت سياسته تجاه بقية العالم تروق لهؤلاء الضباط و لكبار الطبقة الصناعية و لذلك التيار الشعبوي الذي آمن أن ألمانيا فوق الجميع؛ بالضبط كما يؤمن اليوم ترامب و التيار الشعبوي الذي يتزعمه بأن أمريكا فوق الجميع. لكن الجميع توحدوا ضد ألمانيا فخسرت الحرب. 

فقدَ الألمان رشدهم مع صعود هتلر قبل الحرب. لكن خسارة الحرب أعادتهم إلى رشدهم و ذكرتهم أنهم بشر مثل غيرهم وليسوا فوق البشر. فقط بعد أن دمرتهم الحرب وقتلت منهم قرابة ٩ ملايين مواطن أدرك الألمان أن الاستكبار إنما يقتل، أو أول ما يقتل صاحبه. فقط عند هذا أدركوا أن الخسارة كانت أفضل من النصر. خسروا الحرب لكنهم ربحوا إنسانيتهم. وكانت تلك الحرب الثمن الباهظ الذي دفعوه كي يتخلصوا من العنصرية و من تلك الشعبوية التي كانت إذ تؤجج العواطف تحطم العقل و التعقل. عند هذا الحد من انكسار العنصرية و القومجية الألمانية تقدمت انسانية الألمان و تقدمت معها علومهم واقتصادهم وإصرارهم على ألا يسمحوا بإعادة انتاج هتلر جديد. 

الأميركيون لم يعانوا في العصر الحديث من ويلات الحروب و الدمار كما عانت أوروبا. لم يعرفوا غير انهم الدولة الأقوى عالمياً، والمنتصرة دوماً. يتصورون أن من حقهم أن يبقوا الدولة الأقوى و المهيمنة على العالم. هذا التصور تعزز بشكل كبير بين الأميركيين بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ظنوا أنهم فتحوا العالم و قضي الأمر. مفكرون أمريكيون تسابقوا للحديث عن “نهاية التاريخ” و أن الليبرالية انتصرت و أن العالم صار منفتحا على بعضه في إطار عولمة ستمحي تدريجياً الحدود القومية للدول. لكن العولمة التي ظنوا أنها سترفع أمريكا إلى الأعلى انعكست سلباً على الكثير من الصناعات الأمريكية التقليدية. خسر كثير من العمال أعمالهم وصناعاتهم لضعف قدرتهم على المنافسة مع المنافسين الأجانب. سيارة فورد التي تصنع في المكسيك تباع في أمريكا بسعر يقل قرابة عشرة آلاف دولار عن نفس السيارة تماماً و التي تصنع في أمريكا. نفس الأمر ينطبق على التجارة في كثير من المنتجات الصينية وغيرها من دول العالم. طبعا هناك كثيرون ممن ربحوا من هذه العولمة في أمريكا، لكن الخاسرون منها هم من انتخبوا ترامب.

المتضررون من العولمة وجدوا أمامهم مرشح يتحدث بحزم عن استخدام كل سبل الإكراه والقوة لإجبار الدول التي يختلف معها على الانصياع لشروط أمريكا. قد يكون لدى الكثيرين منهم تحفظات كبيرة على أخلاقيات ترامب. لكن عندما يَرَوْن أن ترامب يحمي مصالحهم فلا يبقى للأخلاق دور في اختيارهم. هؤلاء لا تهمهم علاقة الرئيس بمومس ولا كذبه ولا فساده طالما انه يحقق لهم مصلحتهم في استعادة أعمالهم و صناعاتهم غير القادرة على المنافسة في الشركات الأجنبية. هؤلاء صاروا القاعدة التي يستند إليها ترامب. إنهم مستعدون للنزول إلى الشارع للدفاع عن بطلهم ترامب إذا طلب منهم ذلك. و هو قد هدد بهذا اذا تعرض لاحتمالات مسائلته قانونيا عن تلاعبه و انتهاكه للقانون. 

ربما يدان ترامب قانونياً. لكن هل ستتمكن المؤسسات القانونية من فرض القانون على رئيس قادر على إصدار عفو عن نفسه! هل يمكن عزل رئيس متشبث بالحكم و يستند إلى قاعدة شعبوية مستميتة بالدفاع عنه كما استمات الألمان بالدفاع عن المهووس هتلر و المضي خلفه؟ لا أحد يعرف إن كان التاريخ سيعيد نفسه، و يبقى ترامب رئيساً لأمريكا كما بقي هتلر زعيماً لدولة عظمى تعج بأهل الفكر والعلماء حتى أزاحته الحرب. 

لا شك أن ما يجري في أمريكا سيؤثر على كل دول العالم. اقتصاد امريكا يعادل ربع اقتصاد العالم، و قوتها العسكرية تفوق أقرب منافسيها بأضعاف مضاعفة. و القرارات التي تُتخذ في أمريكا تؤثر على الاقتصاد العالمي. الحماية الجمركية التي بدأها ترامب ستؤدي إلى حروب تجارية يذهب ضحيتها شركات و عمال و صناعات حول العالم. لكن معظم مناطق و دول العالم، تتجهز لمواجهة الآثار الناجمة عن سياسات ترامب. أوروبا ستتأثر و لكنها تعمل بنشاط كي تتجنب الآثار السيئة لحروب تجارية مع أمريكا. الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و غيرها من دول تجهز نفسها لمخاطر حروب تجارية مع أمريكا. 

أما دول الشرق الأوسط فهي كالعادة منقسمة ما بين دول تحاول أن تحمي نفسها بتحالف مع ترامب، و دول تحاول ان تحمي نفسها بتحالف مع خصوم ترامب. لا أفق لسياسات تصالحية تخفف من وطأة الحروب والصراعات فيما بين هذه الدول. السياسة الوحيدة المطروحة هي التسليح و التحالف إستعداد للحروب فيما بينها. لا غرابة أن الشرق الأوسط يحتوي أكبر مخازن السلاح في العالم. لكن السلاح في هذا الشرق  ليس لحماية مصالح دول الشرق ضد القوى الكبرى الطامعة فيه، بل من أجل متابعة الحروب بين هذه الدول. و كيف لدول الشرق الأوسط ان تبني قوة لحماية نفسها من القوى العالمية الكبرى بينما هي لا ترى عدواً حقيقيا إلا في جيرانها من دول المنطقة!. 

هذا الشرق الأوسط المؤلف من شعوب مغلوبة على أمرها، وحكومات بائسة لا تعرف كيف تتفاهم مع شعوبها، ليس في نظر ترامب، و السياسة الخارجية الأمريكية سوى بترول و سوق سلاح. إذا لم تجد حكومات الشرق الأوسط فرصاً للتفاهم مع شعوبها، و فيما بينها فسوف تبقى الحروب تلتهمه وتعيده إلى ما قبل التاريخ. إذا لم تتمكن إيران و تركيا و السعودية و مصر تحديداً من إعادة النظر بسياساتها الغارقة في التنافر فيما بينها على أسس طائفية أو عقائدية لا عقلانية فيها فلا أمل يرتجى بتطور نحو الأفضل في الشرق الأوسط برمته. إذا بقيت المصالح الضيقة للحكام فوق مصالح شعوبهم في التعلم و التحضر و الإنفتاح على العالم، فلا أمل لهذا الشرق في النهوض، و سيبقى مصيره رهنا بقرارات بترامب و بالتقلبات في السياسات الخارجية الأمريكية، و سيظل مستنزفاً بحروب لا نهاية لها.

Print Friendly, PDF & Email