أكذوبة الطائفية الديمقراطية (The lie of democratic sectarianism)

Lebanese sectarian democracy
بقلم منذرهنداوي

أهم ما تكشفت عنه الأحداث الجارية في لبنان هو زيف الديمقراطية المؤسسة على الطائفية السياسية. لا شك أن لبنان تميز في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي في المنطقة العربية بديمقراطية من نوع خاص. ديمقراطية تم فيها توزيع المناصب السياسية والإدارية  في الدولة من أعلى الهرم إلى أسفله على أسس طائفية. حتى مدير مدرسة كان خاضعاً لتقسيم طائفي. فإذا كانت إدارة مدرسة بمنطقة ما محسوبة لطائفة ما، فلا يمكن أن يشغل تلك الإدارة غير شخص من تلك الطائفة مهما كان هناك من هو أكفأ منه من طوائف أخرى. لبنان تميز بنفس الفترة أيضاً بنهضة اقتصادية ملموسة، وحرية في الإعلام لم يوجد مثيلها في باقي الدول العربية في ذلك الوقت. 

كل ذلك الازدهار لا يمكن أن ينسب إلى طبيعة نظام المحاصصة الطائفية، بل إلى توافقات دولية أعطت لبنان مكانة خاصة كمدخل للشركات الأجنبية الزاحفة في ذلك الوقت إلى دول الخليج. إضافة إلى ذلك ساهم هروب الرساميل السورية إلى لبنان و تدفقات رؤوس الأموال من دول عربية في الازدهار الاقتصادي اللبناني. لكن مقومات الازدهار اللبناني بدأت بالتآكل خلال الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي. تراجع اقتصاد لبنان، لكن نمت طائفية سياسية حافظت على مكانة قادة وشيوخ الطوائف. هؤلاء القادة تقاسموا حكم لبنان، و تقاسموا المناصب الرفيعة فيه، و رغم حروبهم ونزاعاتهم تقاسموا الثراء من خلال الفساد الذي رعوه، والذي نخر البلد و نزل بمستوى عامة الناس من كل الطوائف إلى مستويات من الفقر غير مسبوقة في لبنان.

في العراق تطورت طائفية سياسية بقالب ديمقراطي مماثل للبنان. فقد زرع بريمر، حاكم العراق بعد الاحتلال الأمريكي، نظام المحاصصة الطائفية الديمقراطية كبديل للاستبداد. حجته في ذلك تستند على اعتقاد في أوساط غربية و في اسرائيل أن الشرق الأوسط منطقة طوائف وأديان. و أن ضبط أنظمة الحكم في الشرق الأوسط يتم عبر التفاهم مع قادة الطوائف القادرين وحدهم على تطويع الشارع. لذلك لم يكن غريباً أن بريمر حاول بكل جهده تعزيز علاقته مع شيوخ طوائف العراق. أسس تلك الديمقراطية العراقية المبنية على طائفية سياسية مشابهة للبنان. لكن التجربة أظهرت أن تلك الديمقراطية لم تخدم عامة الناس، بل رفعت إلى الصدر زعامات طائفية جثمت على صدر الطوائف فيه، ونهبت العراق وساهمت بتفاقم الفقر فيه أكثر مما فعله أي استبداد سابق. 

ما فعلته الديمقراطية  الطائفية في كلا البلدين لا يزيد عن استبدال مستبد واحدٍ كان يحكم البلد، بمجموعة مستبدين يتربعون على صدر كل الطوائف. زعماء الطوائف بالفعل ليسوا أكثر من مستبدين يستغلون تعاليم الدين والطائفة، ولا ينفكون عن تخويف اتباعهم من خطر الطوائف الأخرى كي يسيطر كل منهم على طائفته. وعوضاً عن أن يعكس زعماء الطوائف مصالح الأفراد في الطوائف، صار هؤلاء الزعماء “طائفة” مستبدة ضد “طائفة” عامة الناس من كل الطوائف الذين يشعرون بالظلم و الإهمال و الفقر من كل ذلك النظام الفاسد. 

ما نشاهده الآن في لبنان، و ما شاهدناه قبل ذلك في العراق هو انتفاضة بوجه الطائفية السياسية. في كلا البلدين رفع المتظاهرين الأعلام الوطنية في وجه رايات و زعامات الطوائف. لكن الطائفية السياسية نظام قوي جدا، و قوته تكمن في استعداد قادته على تحويل أي حراك ضد الطائفية السياسية إلى حرب أهلية تعيد الروح إلى تلك القيادات. لذلك فإن اقتلاع الطائفية السياسية من المجتمع أصعب بكثير من اقتلاع استبداد لا طائفية فيه. لكن لا سبيل أمام أي نهضة حقيقية في دول الشرق الأوسط غير نبذ الطائفية بشكل حاسم واقتلاعها جذرياً من السياسة. 

فهل هذه هي البداية لتصدع الطائفية السياسية في لبنان و العراق؟ أم أن قادة الطوائف سيسرعون للتفاهم فيما بينهم من اجل التصدي بحزم ضد عامة الشعب الذي بات يرفضهم؟ لا أحد يمتلك إجابات قاطعة عن تلك الأسئلة. لكن الأكيد أن الرفض للطائفية عموما، و للطائفية السياسية خصوصاً بدأ يأخذ دوراً فاعلاً بين الأجيال الشابة المتطلعة لأنظمة حكم تعبر عن طموحاتها و لا تضعها رهنا لمصالح شيوخ الطوائف.

Print Friendly, PDF & Email