هل كانت هناك ثورة؟ (Was there a revolution?)

Was there a revolution?
بقلم منذر هنداوي

 الثورة سميت ثورة لأنها في الأساس  تعبير عن انفجار القهر و الغضب المتراكم  في النفوس لفترات طويلة. لكن معنى الثورة تغير عبر الزمن من حالة تشير إلى تفجر الغضب قتالا و عنفاً، إلى حالة تصف تغييرا هائلا بغض النظر عن وسيلة التغيير و ما إذا كانت عنيفة أو غير عنيفة. فمثلاً التطور الصناعي الكبير في أوروبا قبل قرنين أطلق عليه الثورة الصناعية. و الآن تجد تعابير مثل ثورة الاتصالات و ثورة النت، و حتى الثورة المخملية التي حصلت في تشيكوسلوفاكيا؛ و كلها تشير الى تغيير هائل لكن بدون عنف. فالمعيار في إطلاق كلمة ثورة على حدث كبير صار يقترن بمدى التغيير الكبير الذي ينتج عن هذا الحدث.  

ما يهم في هذا العرض ليس التنظير للثورة التي تحصل في المجتمع، رغم أهمية هذا،  إنما فهم الدوافع التي تؤدي إلى ثورة تعتمد العنف كوسيلة لقلب الأمور و رفع المظالم. استخدام العنف في الثورة يختلف عن استخدام العنف في حرب يشنها جيش يقوده قادة عسكريون محترفون يرسمون الخطط والتكتيكات ويضعون خطط الطوارئ في حال الفشل. في الثورة تولد الخطط و التكتيكات لحظة اشتعال الثورة. والثورة أيضاً ليست حرب عصابات شعبية تقودها فئة مدعومة شعبياً ضد جيش محتل.

الثورة قبل كل شيء حدث موضوعي شأنها شأن بركان يتفاعل و يغلي داخل الأرض إلى أن ينفجر و ينثر حممه في كل اتجاه. أخذت الثورة اسمها من ثور لتشبيه قوة اندفاعها بقوة  اندفاع الثور الهائج الذي ينطح بأكثر من اتجاه بكل عنف. لكن ثورة الشعوب تختلف عن ثوران الثور بأنها تنفجر من اندفاعاتٍ تتطور بقلب المجتمع و ليس من تحريض خارجي، كما هو الحال في تحريض ثور على القتال. قد يوجد من يحرض على الثورة من الخارج، لكن الناس لا تثور إلا إذا وصل غضبهم الجماعي حد الانفجار. فقط بعد أن تنفجر الثورة يبدأ التأثير على مسارها و توجيهها، بالضبط كما يوجه خبراء البراكين حمم البركان في مسارات معينة.

 فقط بعد انفجار الثورة يظهر دور القادة. نجاح الثورة بالوصول إلى الهدف المنشود، وهو رفع الظلم، مرتبط بوعي هؤلاء القادة وبدقة حساباتهم وقدرتهم على فهم حدود الممكن، و ليس على إصرارهم طرق باب المستحيل. من يقودون الثورة تحت شعار “ثورة ثورة حتى النصر” دون حسابات للخسائر والربح ينتهي الأمر غالبا معهم بأفدح الخسائر و دون تحقيق أي نصر. بل إن القيادة البائسة التي لا تقيم وزناً لحسابات الربح والخسارة تساهم بالتأسيس لظلمٍ أشد مرارة على الناس من كل ما عرفوه سابقاً. 

صحيح أن الثورة حدث موضوعي له اسبابه داخل المجتمع لكن من يمتلك الحكمة وبعد النظر يمكنه توقع حدوث ثورة بالضبط كما يمكن للخبراء المختصين توقع حدوث بركان ما، و إن لم يكن بالدقة متى و كيف و أين سيبدأ الانفجار. معرفة ما يحتقن بالنفوس و استشعار حدته ليس أصعب من استشعار ما يحتقن بالأرض. لكن من يريد أن يستشعر الاحتقان في النفوس في مجتمعات يسودها الإنكار!؟ 

الحقيقة أنه لا يوجد اهتمام يذكر بفهم نبض الشارع و معاناة الناس في بلادنا. كل المؤشرات كانت تفيد أن الاحتقان يتزايد بين الناس و ينبئ بإمكانية حدوث انفجارات عظيمة، لكن لا أحد كان يريد أن يسمع و يدقق النظر. مسؤولون كبار كانوا يسخرون ممن كانوا يحذرون أن منطقة الشرق الأوسط برمتها باتت على موعد مع أحداث جسام. بل كان ينظر إلى  من يحذر أنه مرتبط بمخطط ما أو حزب ما. لكن من حذّر كان يمتلك وعياً كافياً كي يرى الضغط المتراكم في الصدور، وكان يمتلك حساً وطنياً لا يقل عن إحساس أي مواطن شريف يحب بلده. لكن لسوء حظ بلادنا فإن كلمة الوطني صارت مرادفة لمن يداهن المسؤول و يكذب عليه.

فقط بعد هرب الرئيس التونسي بن علي ٢٠١١ انتبه أغلب قادة المنطقة و كثير من المتتبعين أن المنطقة كلها باتت مقبلة على ثورات. الاحتقان كان هائلاً في معظم البلاد العربية. كيف لا وقد وصلت حدة التناقضات في كل هذه البلاد حداً لا يمكن تقبله. طبقات متحكمة تعالت و ارتفعت عن مشاكل الشعوب و معاناتها. شعوب تشعر بالتهميش و الإذلال والإفقار. الهوة بين الفقراء و الأغنياء توسعت بشكل غير مسبوق. دخْل العامل من عمله و دخْل الفلاح من زراعته الأرض كان الأقل بلا منازع من كل الأعمال الأخرى في المجتمع. هجر كثير من الفلاحين قراهم وذهبوا إلى المدينة، مما زاد في بؤس الريف و أثقل العبء على المدينة في أغلب الدول التي اجتاحتها الثورات. خلال نصف قرن الماضي انتشرت العشوائيات بكل مكان. تريفت علاقات المدينة عوضا أن يتم تطوير الريف وتمدين العلاقات فيه. أما الفساد و الرشوة فقد غزت نفوس الناس بعد أن غزت ونخرت مؤسسات دول هذا الشرق البائس. 

انتبه قادة البلاد العربية و حاولوا الإصلاح. الملك عبد الله في السعودية قطع إجازته في المغرب بعد انتقال الثورة إلى مصر وعاد إلى السعودية في ربيع ٢٠١١ ليعلن عن رفع الرواتب و الأجور و منح المكافآت بغير حساب ليصل مجمل ما أنفقه إلى ما يزيد عن مائة مليار ريال سعودي. في المغرب حصلت تغييرات نحو التعددية السياسية. في سورية أعطيت الأوامر بتخفيف القبضة الأمنية، ومنها التساهل مع الباعة المتجولين كي لا تعاد تجربة البوعزيزي. فاكتظت جسور دمشق و كثير من أرصفتها بالبسطات التي تحتوي على كل أنواع البضائع المهربة.

 في حي البرزة في دمشق تقدمت دورية من وزارة التموين في مهمة روتينية لمراقبة اللحم في دكان جزار في ربيع ٢٠١١. بعد نصف دقيقة من الاستماع إلى موظف التموين انفعل الجزار و سحب الساطور في وجه موظف التموين و هو يصيح به اطلع برا و إلا قسمتك نصفين، و خلي الشرارة تطلع من عندي. و بالفعل هرع رجل التموين إلى سيارته هاربا مع بقية أفراد الدورية. ما عبر عنه هذا الجزار  كان الجميع يشعرون به منذ هرب الرئيس التونسي بن علي ٢٠١١، فقد كان الناس في سورية على موعد مع حدث جلل سوف يحدث لكن لا أحد يعرف من أين ستنطلق شرارة الثورة. 

لم يطل الانتظار و حصلت الثورة في سورية. بغض النظر عن نتائجها و تحولاتها، فقد بدأت سلمية بقوة اندفاعٍ من معظم شرائح المجتمع المدني الشبابي المحتج على الفساد و النهب و التهميش. لكنها سرعان ما تعسكرت و تحولت إلى ثورة الريف الغارق في الفقر والذي لم يجد في هذه الحياة ما يسعده فاتجه شبابه إلى الله لعله يرى نصيبه في الآخرة. وكانت التنظيمات المتطرفة جاهزة لتجنيد أبناء الريف ممن أمضوا عمرهم هائمين على وجوههم بلا عمل ولا وظائف و لا دخل يذكر. لا توجد إحصاءات عمن حملوا السلاح، لكن أكثر التقديرات تشير أن أغلب المقاتلين في كلا الجانبين المتصارعين كانوا من شباب الريف. 

لحظة عسكرة الثورة هي لحظة تحولها إلى ما يشبه حرب أخذت بعداً طائفياً، إضافة بالطبع إلى أبعاد أخرى. حرب استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة. بل أصبحت سورية حقل تجارب للأسلحة الدولية الجديدة، و حرب بالوكالة بين دول كبرى و دول إقليمية. أسوأ أوجه هذه الحرب هو الوجه الطائفي الذي أخذته. صحيح أن الطائفية كانت موجودة في بلدنا، بل و في أغلب دول الشرق الأوسط، لكن الثورة بدأت بزخم ضد الطائفية، و ليس ضد طائفة، لكنها بعد عسكرتها أخذت بعدا طائفياً. 

هناك من يرفضون تسمية ما حصل بأنه ثورة. يقابلهم فريق يصر أنها ثورة، و أنها ما تزال مستمرة. كلا هذين الطرفين المتقابلين على طرفي نقيض يشتركان بنظرة واحدة تجاه (الثورة) عموما، و ليس هذه الثورة تحديدا،  بأنها حدث شبه مقدس يقلب كل شيء نحو الأفضل. كلا الطرفين على باطل. الثورة كمفهوم، و كفعل ثوري، و كحدث موضوعي ليست بالضرورة مقدسة، و ليست بالضرورة بشرى خير. الثورة يمكن أن تأتي بالخير، لكن أيضاً يمكن تأتي بالشر. فبعد ثورة فاشلة يمكن أن يزيد خضوع الناس للاستبداد الذي ثاروا بالأصل ضده.

لكننا في بلدنا لدينا ميل لاختزال الواقع في كلمات. لا نحب كثيراً الغوص بمعاني الكلمات و مدلولاتها و انعكاساتها في الواقع بقدر ما نحب ترديدها و الحديث عنها و رسم الصور لها. أحببنا الثورة و الثوار، و حتى نزق الثوار. صار التغني بالثورة أشبه بتغني عاشق بمحبوبته. أكبرنا الفعل الثوري دون أن نفكر بما سينتج عن هذا الفعل الثوري. تصورنا أن الثورة رحلة رومانسية يُسحق فيها الخصم، و ينتصر الثائر. كل هذا دلالة على مدى إجماعنا على إكبار الثورة. لكننا الآن نعرف أن الثورة ليست رحلة رومانسية، وأنه لا قيمة لنزق الثوار مقابل حكمة العاقل. الآن ندرك أن المتنبي كان اعقل ألف مرة من كل شعرائنا المعاصرين الثوريين عندما قال: “الرأي قبل شجاعة الشجعان”. 

للدلالة على مدى تقديس الثورة في بلادنا ربما يكفي أن ننظر إلى تلك المناقشات الحادة حول التفريق بين الثورة والانقلاب. فمثلا أغلب من يكرهون البعث يرفضون تسمية ما حصل في ٨ آذار ١٩٦٣ ب ثورة، ويطلقون عليها انقلاباً. ومن يحبون البعث يؤكدون أنها ثورة، بل و ثورة العمال و الفلاحين حسبما كان يصدح الإعلام الرسمي كل يوم. نفس الأمر تجاه الرئيس جمال عبد الناصر. من يحبونه يصرون أن ناصر أتى إلى الحكم عبر ثورة، و من يكرهونه يؤكدون أنه أتى عبر إنقلاب و ليس ثورة. و كأن التسمية تغير من واقع الحال في شيء أو تلغي حكم ناصر حتى بعد موته. 

في تشيكوسلوفاكيا حصل تغيير جذري في نظام الحكم بعد مظاهرة كبيرة. انتقلت البلاد من نظام حكم اشتراكي إلى نظام حكم ليبرالي، و سموها ثورة، و ثورة مخملية. و لم ينقسم الناس حول ما إذا كانت ثورة أم لا. و لم يبقوا يتناظرون حولها على الطالع والنازل. و لم يتنطح الخبراء و المنظرون ليرجعوا إلى مراجعهم و ما قاله الفقهاء في الثورة. أطلقت عبارة الثورة المخملية عليها و انتهى الأمر. 

في بلادنا لا ينتهي مثل هذا الأمر أبداً. نبقى نختلف و نراوح حول التسميات دون محاولة فهم الضرورات التي تقود إلى التغيير. نحن مختلفون على إطلاق اسم الثورة على ما حدث في سورية، لكن، انتبه، فنحن متفقون نظريا على (قدسية الثورة) و الحمد لله!!  لكنه هذا اتفاق زائف. فنحن الحقيقة متفقون على اختصار الواقع في شعارات، و على تذويب الفكر في كلمات، و على برْوزة الكلمات في براويز جميلة. نحن متفقون على تحنيط الكلمات و تفريغها من مضمونها كما فرغ الفراعنة الأعضاء الداخلية للجثث التي حنطوها. متفقون على سلخ الكلمات من مدلولاتها في الواقع. متفقون على تصنيم الكلمات و عبادتها كما عبد الأولون الأصنام. متفقون على تقديس وتعظيم الثورة، فعظم الله أجرنا. 

الثورة ليست عملا مقدساً. ما هو مقدس هو المحافظة على حياة الناس و عدم الرمي بهم إلى التهلكة. ما هو مقدس ليس الثورة و لا قوة اندفاعها، بل نجاح من يقودها في ضبط العنف ونبذ كل أسباب الظلم و في إرساء قواعد التصالح بين الجميع بمن فيهم من قامت الثورة ضدهم. ما هو مقدس أكثر هو العمل بحكمة على تطوير رؤيتنا للواقع و نشر الوعي و إثارة مناخ يفسح المجال لحل الخلاف بالحوار و التفاهم. 

نجاح الثورة ليس في سحق الخصم بل في تغيير سلوكه ليشارك في نبذ الظلم و التوصل معه إلى تفاهم. مَثَلُ الثورة الناجحة مَثَلُ ثورة السود في جنوب أفريقيا ضد حكم البيض. مَثَلُ القائد الناجح للثورة مَثَلُ مانديلا الذي قال بعد أن نجحت الثورة و صار رئيسا: “أمضيت نصف عمري أحارب عنصرية البيض ضد السود، و الآن سأبدأ بمحاربة عنصرية السود ضد البيض”. بهذه القيادة و بامتثال الشعب للقائد تحقق الثورة هدفها النبيل. مَثَلُ الثورة التي بدأت تظهر عليها علامات النجاح مَثَلُ الثورة في السودان و الجزائر اللتين حافظتا على رباطة الجأش و لم تستفز كلاهما للرد على العنف بالعنف. 

في سورية بدأت ثورة. لكن سرعان ما توالد فيها اكثر من ١٢٠٠ فصيل مقاتل. أغلبها فصائل متطرفة. ساهم بتكوينها بسرعة كبيرة المال من قطر و السعودية و من منظمات و هيئات متطرفة. كانت أبرز شروط الدعم المالي أن يسمي الفصيل اسمه بتسمية ذات مدلول طائفي سني. تركيا فتحت حدودها كي يتدفق المتطرفون من بلاد العالم بما في ذلك المتطرفون من دول أوروبية. وكانت تلك البلاد أكثر من سعيدة للتخلص منهم في جهادهم المزعوم في سورية. وفي مقابل هذه المنظمات كانت إيران جاهزة لتشكيل منظمات لا تقل طائفية و بأسماء طائفية. مقابل منظمات بأسماء عائشة و معاوية ظهرت منظمات بأسماء فاطميون و زينبيون. جميع هذه المنظمات ذات الأسماء السنية و الشيعية أظهرت وجها طائفياً لا تخطئه العين.  

خارج سورية تقلص دور المعارضة الليبرالية و اليسارية لصالح الإخوان المسلمين الذين كانوا الأكثر تنظيماً و الأكثر استعداداً للقيادة و الأكثر تمثيلا على الأرض. في المحصلة غلبت المنظمات المتطرفة و سيطرت في أغلب مناطق المعارضة. لم يكن معظم المعارضين في الخارج، بما فيهم قادة المعارضة، يعرفون الكثير عن المنظمات الاسلامية المتحكمة على الأرض في سورية. لم يتم التعرف على هذه المنظمات جيدا إلا بعد التهجير إلى إدلب. 

المحصلة بعد أن انفجرت الثورة تسربت إليها بدهاء تيارات اسلامية مدعومة خارجياً. قرارات هذه المنظمات ارتهنت إلى حدٍ بعيد جداً بمصالح داعميها و ليس مصلحة سورية. تقسمت سورية إلى مناطق نفوذ و سيطرة للعديد من القوى الأجنبية. مبعوثون دوليون الواحد تلو الآخر يأتون إلى سورية لحل الخلاف بين السوريين في بلدهم سورية. السوريون بكل أطيافهم فقدوا القدرة على تقرير مصيرهم بأنفسهم. لكن هل فقدنا كسوريين القدرة على مراجعة فكرنا و مواقفنا؟ لا لم نفقد القدرة على ذلك. لا نحتاج لغير الارادة الواعية لإعادة التفكير من جديد خارج الصناديق التي حبسنا عقولنا فيها، وخارج الحساسيات التي استسلمنا لها، و خارج العداوات التي انفرضت علينا. 

لا يوجد عاقل في هذا الكون غير قادر على مراجعة نفسه. كلنا قادرون على التوقف والتأمل بكل ما جرى وإعادة النظر بطرق جديدة للحل. أوروبا التي تذابحت بحرب عالمية طاحنة راجعت نفسها و وجدت مخرجاً للسلام فيما بينها وصارت اتحادا واحداً. كل ما فعلته أوروبا أنها توقفت عن الإنكار و بدأ كل طرف بتفهم الطرف الآخر و تفهم مواجعه. فهل سنتوقف عن الإنكار؟! هل سنكسر السجون  التي حبسنا عقولنا فيها؟

Print Friendly, PDF & Email