(Change, even after 70) التغيير حتى بعد السبعين

Determination
بقلم منذرهنداوي

كثيراً ما تجنبتُ متابعة المسلسلات التلفزيونية فقد كنت ارى أنها بمثابة فخ إذا وقعت فيه سأظل محبوساً حتى مشاهدة كامل المسلسل. وقد وقعتُ سابقاً في أفخاخ مسلسلات كنت أشعر بالمقت بعد انتهائها لأنني لم استفد منها شيئا يذكر. 

هذه المرة حصل معي شيء مختلف تماماً. فأثناء زيارته لنا ادخل إبني شبكة نتفلكس الى التلفزيون، وصار بإمكاننا مشاهدة أفلام  ومسلسلات وقت ما نريد. و بدأ بعرض مسلسل كندي تدور أحداثه عن قصة في أواخر القرن ١٩. اسم المسلسل: “آن”: ”Anne with an E”. وحيث أنها كانت تجربة جديدة مع هذه الشبكة فقد تابعت مترددا الحلقة الأولى. لكن ما أن انتهت الحلقة حتى شعرت برغبة شديدة بالمتابعة أكثر. تحولت إلى الحلقة الثانية ولم أستطع التوقف عن مشاهدتها، و بعدها تابعت الحلقة الثالثة و الرابعة و بقيت اتابع حتى الساعة ٣ بعد منتصف الليل. في مساء اليوم الثاني تابعت بنفس الشغف حتى انتهيت من مشاهدة جميع حلقات المسلسل قبيل الساعة الخامسة صباح اليوم التالي، وهو الوقت الذي غالباً أصحو به عادة من النوم كل يوم. 

رغم كل تعب السهر في المتابعة فقد شعرت بالفرح بعد إنتهاء المسلسل بأني تعلمت منه شيئاً ذَا قيمة، على عكس ما كان يحصل معي سابقاً. المسلسل يحكي قصة فتاة صغيرة عمرها ١٣ سنة ويتيمة الأبوين. إضافة إلى هذا كانت فقيرة وترى نفسها أنها نحيفة جداً وغير جميلة. عاشت آن في المياتم وخدمت عند أسر أساءت معاملتها كثيراً. أخيراً وجدت نفسها بالخطأً عند الأخوين المسنين ماريلا و ماثيو اللذين كانا يبحثان عن ولد يساعدهما بالمزرعة. 

تميزت آن بسرعة بديهتها وجرأتها، واستعدادها الدائم للتعبير عما تريد. صراحتها المفرطة كثيراً ما جلبت لها المشاكل و العداء. لكنها في جوهرها كانت محبة وصادقة وتبحث عن قبول الناس لها، وأن يكون لها المكان الذي تستحقه في هذا العالم. بالرغم من عدم تقبلها في البداية من ماريلا ومن عدد من سكان البلدة الصغيرة، فقد تمكنت بذكائها وعفويتها و روحها الطيبة و إبداعها من اكتساب قلوب معظم الناس في البلدة. و عوضاً أن تبقى مجرد خادمة تساعد في أعمال البيت تبناها الأخوين وصارت رعايتها في مقدمة أولوياتهما. 

اندفاع آن الشديد للتعبير عما يجول بخاطرها أدخلها في مآزق ومشاكل كثيرة، لكنه فتح النقاشات حول مواضيع كان الناس يخجلون من طرحها ويتجنبون الحديث فيه. فتزايد طرح الأسئلة والجدل بخصوص التعليم والعلاقات بين البنات و الأولاد، و بين الأبناء و الآباء، وكيف يكون المرء نفسه و ليس ما يريد له المجتمع أن يكون.  

هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه في هذا المسلسل. لكن أكتفي بالإشارة إلى جانب مهم عالجه المسلسل وهو التعارض بين سطوة العادة و التقليد، و بين إرادة التغيير والتطوير. بين أناس تقدم بهم العمر، دون أن تتقدم معهم القدرة على التغيير، و أناس قضيتهم التغيير والتطوير والانعتاق من سجن العادة إلى العالم المتجدد الأرحب. تجلى ذلك الصراع في إجتماع عقده أهالي تلاميذ المدرسة مع المسؤولين عن التعليم ضد مُدرِّسة جديدة ادخلت اسلوبا حديثا في التعليم لم يرق للأهالي. 

كان يُدرِّس في مدرسة البلدة معلم شاب تقليدي في اُسلوب تعليمه وقاسٍ في أحكامه و شديد في عقابه وتعنيفه للتلاميذ. رغم مظهره بالتقيد بالنظام فقد طور علاقة غرامية مع تلميذة لم تكن مجتهدة لكنها جميلة، و كان منحازاً لها. بالمقابل كان متحاملاً ضد آن التي كشفت أمر علاقته الغرامية. الخلاصة أن ذلك المعلم ترك التدريس لعدة أسباب و حلت محله تلك المعلمة الجديدة. مظهر المعلمة و سلوكها لم يكن محببا للأهالي. فقد كانت تسوق دراجة نارية بسيطة عوضا عن ركوب العربة التي يجرها الحصان في ذلك الوقت. كذلك بدت غير تقليدية في عدد من الأمور. في قاعة التدريس غيرت المعلمة مقاعد الدراسة التي كانت مصفوفة خلف بعضها وكانت القاعة مقسومة إلى قسمين واحد للذكور وآخر للإناث. عوضاً عن ذلك جلس التلاميذ جميعاً على الأرض في حلقة كبيرة، وكانت المعلمة تجلس كواحدة من هذه الحلقة. و بذلك كانت العلاقة بينها و بين التلاميذ أكثر حميمية و تفاعلاً. فقد كانوا حلقة واحدة، أو مجموعة متكاملة وليس تجمع تلاميذ متنابذين في الصف. 

عوضا عن التلقين والتحفيظ أعطت المعلمة التلاميذ فسحة أكبر للتحاور وإبداء الرأي والتعلم بأنفسهم عبر اكتشافهم للخطأ وتعرفهم على الصواب بدون تدخل دائم من قبلها. الأمر الذي أشعر التلاميذ بدورهم و قدرتهم على المشاركة والاكتشاف والتعلم. من بين الأعمال التي قدمتها المعلمة إدخال التجربة في التعليم. فقد تشاركت مع التلاميذ في تجربة لتوليد كمية كافية من الكهرباء لإضاءة مصباح. و كانت الكهرباء وقتها اكتشاف حديث لم ينتشر بعد إلا في بعض المدن. 

أحب التلاميذ المعلمة الجديدة و تفاعلوا معها بحماس. لكن أهالي التلاميذ في البلدة لم يكونوا مرتاحين لهذا النمط من التعليم و أثره السيء على الأولاد. و قد ساهم في غضب الأهالي عدة حوادث حصلت واعتبروا أن المعلمة تسببت في حدوثها. منها مثلاً  أن أحد التلاميذ تكهربت يده بالخطأ وهو يمسك بمصباح الكهرباء. ومنها شجار حصل بالمدرسة بين تلميذين أحدهما انقطع عن الدراسة وحاولت المعلمة إرجاعه للمدرسة، وتلميذ آخر كان يضايق ذلك التلميذ باستمرار. وكانت النتيجة إصابة بالغة في أذن أحدهما. الخلاصة أن عدة أمهات اجتمعن و قررن عقد اجتماع كبير بين جميع أهالي التلاميذ مع رجال الدين والمسؤولين عن التعليم لاتخاذ قرار بفصل المعلمة و طلب معلم جديد، (وليس معلمة) كي يضبط التلاميذ و يتقيد بأصول التعليم التقليدي المتبع. 

المسنة ماريلا التي تبنت آن اعترضت بشدة على الاجتماع وذهبت إلى بيت المعلمة فوجدتها تلملم أغراضها استعدادا لترك العمل من المدرسة. تحدثت مع المعلمة بقوة و قالت لها ما مفاده: إن كنت تؤمنين برسالتك في التعليم و التغيير فعليك ألا تستسلمي. في يوم الاجتماع و بينما كان النقاش محتدما ويميل ضد المعلمة دخلت المعلمة القاعة رغم عدم دعوتها. اعترض البعض على دخولها لكنها أصرت و قالت الموضوع يخصني و يتعلق بي ومن واجبي أن أشرح وجهة نظري، و من واجبكم الاستماع لي. سمح لها و قدمت مداخلة عن التعليم و كيف يجب أن يكون. ما أن انتهت المعلمة من مداخلتها حتى وقفت المسنة ماريلا و تحدثت بصوت عالٍ قائلةً: “كشخص أمضى الجزء الأكبر من حياته بدون أي تغيير، و بعدها تغيرت بسبب ما انفرض علي من مواجهة لنفسي، أشهد أن السبيل الوحيد للنمو والتعلم هو ما تقدمه هذه المعلمة”. 

بعد هذه الشهادة دخل التلاميذ دون إذن حاملين معهم مصابيح كهربائية تضيء بنفس الطريقة التي جربتها المعلمة معهم مما أدخل الدهشة في نفوس الجميع. بعدها قدمت التلميذة آن مداخلة صغيرة لصالح المعلمة اقتبست فيها كلمات من بنيامين فرانكلين: “قل لي فأنسى. علمني فأتذكر. أشركني فأتعلم”. هذه ترجمة شبه حرفية مفادها أن المرء يمكن أن ينسى ما يقال له، و قد يتذكر ما تعلمه، لكن سيتعلم جيداً ما شارك في إعداده و تطويره. وهذا نص الاقتباس:

Tell me and I forget. Teach me and I remember Involve me and I learn. 

بعد كلمة التلميذة آن وضع مقترح عزل المعلمة للتصويت فصوت الجميع لبقائها بما فيهم المحرضة الأولى ضدها. 

هذا عرض مختصر لجانب واحد من مسلسل يطرح على المجتمع قضايا التغيير، و يطرح على من عاشوا عمرهم دون أي رغبة في التغيير كي يراجعوا أنفسهم ولا يصبحوا عقبة أمام قوى التغيير الصاعدة و المبدعة. فالمتقدم بالعمر لا يملك وحده مقاييس الصح و الخطأ. الصغير إيضاً يمكن أن يمتلك الكثير من مقومات التغيير وطرح الأسئلة التي تجنب الكبار طرحها. لذلك يجب الإصغاء للصغير و تشجيعه على المبادرة و ليس كبحه بحجة أن الكبير يفهم كل شيء. وقد أثبتت المناقشات في المسلسل أن التغيير ممكن حتى في وقت متأخر من العمر.

 لم يكن هذا المسلسل وسيلة لتسطيح الفكر وتزييف المشاعر وتزوير التاريخ كما تفعل معظم مسلسلاتنا، و منها المسلسل المقرف باب الحارة. ترى أي مسلسلات سيتابع الناس في بلادنا في رمضان القادم؟!. لسوء حظ الناس أن معنى رمضان تحول من إقلال في الطعام إلى إسراف وهدر له، ومن شهر تقرب من الله وعطف على الفقراء الى موسم متاجرات رخيصة ضد كل ما أراده الله من الصيام. فقد بات شهراً تتنافس فيه الشركات بأسخف الدعايات و أسوأ المسلسلات. فهل من وسيلة للتغير في بلادنا!؟ 

Print Friendly, PDF & Email