بقلم منذر هنداوي (The brain is not a refrigerator)

Frozen minds
بقلم منذر هنداوي

الدماغ ليس ثلاجة نحفظ فيها الأفكار و الحكم و الأقوال كي نعيد إخراجها لنرددها ونكررها جامدة كما حفظناها. وظيفة العقل ربط أو عقل ما حفظناه بفهم جديد لما يستجد في واقعٍ لا يتوقف عن التغيير. لا قيمة لاستحضار أو اقتباس أفكار مما حفظناها في رؤوسنا دون أن نعرف كيف نربطها بما يحدث أمامنا من تغيرات. لا قيمة لأفكار نستعيدها مجمدة محنطة لا تحاكي التطورات في الواقع، ولا تساعدنا في كيفية التعامل معه. 

ما قيمة أن أنقل عبارات عن إبن رشد، أو إبن خلدون و غيرهم دون أن أشرح بعض دلالات ما أعرضه  ولماذا أعرضه، و دون أن أستخلص منها رأيا يمثلني ويمثل فهمي لها. ما قيمة أن اقتبس من  هيراقليت هذه العبارة “لا يخطو رجل في نفس النهر مرتين”. إن لم أشرح دلالتها في أن الواقع متغير أبداً، و أن ما تلتقطه عقولنا في لحظة ما إنما هو التقاط لحظة من لحظات تجليات و تغيرات الواقع، أو وجه من وجوهه؟. إن لم يساعدني هذا الاقتباس في تعلم القبض على أهم المتغيرات المتسللة إلى الواقع و كشف مدلولاتها، فلا قيمة تذكر  لبروزة هذه الاقتباسات بأجمل البراويز. بل إن في تكرار بروزتها و إعادة عرضها مساهمة في سلب روحها وقتل معانيها في رؤوسنا. 

كم هناك من عبارات سلبت منها الروح من كثرة تكرارها. كررنا و تغنينا ب: “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر”. و مضينا متصورين أن القدر سيستجيب اوتوماتيكيا لإرادة الشعب التي لا تقهر. لكن تبين أن القدر لم يستجب لمن لم يتعلم كيف يدقق بالمعاني و يرصد إمكانية التغيير في الواقع. القدر لم يستجب لمن لم يتحسب للمتغيرات، أو لمن لم يفهم مضامين حكمة الفلاح التي تعلمها عبر السنين أن “حساب الحقل غير حساب البيدر”. القدر لم يستجب لمن لم يتعلم كيف يعقل، و كيف يراجع حساباته، و كيف يتراجع عند الضرورة. القدر لم يستجب و لن يستجيب لمن يظل يكرر ألاف المرات “الحكمة ضالة المؤمن” دون أن يفهم أن الحكمة في السياسة هي البحث الدائم عن “الممكن”، و ليس طحن الخصم أو إلغاؤه. أليس من الحكمة أن نؤمن أن لا أحد يملك الحقيقة كاملة!؟ نعم لا أحد يملك الحقيقة كاملة. أعقل العقلاء يمكن أن يخطئ، و أكثر الخطائين يمكن أن يصيب. و كما قيل الساعة المتوقفة على صواب مرتين في اليوم. ما يميزنا كبشر ليس أننا دوما على صواب، بل أن لدينا قابلية التعلم من الخطأ و قابلية التحسين. 

رسالتنا كبشر ليست في تكرار ما قاله آخرون قبلنا. بل في محاولة الفهم و الإضافة على ما قالوه. تكرار الاقتباس دون محاولة الشرح و الإضافة هو نقل ميت لفكرة حية. إنه نقلٌ ميتٌ إذا لم نجعل الأفكار التي ننقلها تزهر خيرا ومعرفة و إشراقات جديدة تحفز من يقرؤها على إعادة التفكير، أي إعادة النظر بروح منفتحة على الفهم و التفهم. كم يوجد من أفكار أسيء لها من كثرة تكرارها؟. كم تم تكرار عبارات مثل “دكتاتورية البروليتاريا” من قبل ثورويين في رؤوسهم كثير من الثورة و قليل من العقل، حتى جعلوا من دكتاتورية البروليتاريا رمزاً للحرب على كل ما هو متحضر و متمدن و عقلاني؟!. و كم من صراخ نحو  “الجهاد” أصاب معنى الجهاد في مقتل عندما صار يعني القتل على أيادي جماعات من المتطرفين المتعطشين للدماء!. بينما الجهاد في جوهره جهاد النفس و كبح انفلاتاتها كي تتيح للعقل أن يمضي نحو رؤية الواقع و اعادة بنائه في رؤوسنا على نحو أحسن من جديد. 

تابعوا ما يكتب على النت و ستلاحظون مدى الإقتباسات المرتبة و المنمقة التي اقتبست من مفكرين كبار  أو من كتب مقدسة دون أي شرح أو ربط لها بمتغيرات الواقع. ساعدتنا محركات البحث وخاصة غوغل في تسهيل الحصول على هذه الاقتباسات و نشرها، لكن معظمها بقيت اقتباسات ميتة لا روح فيها. غوغل لا يمكن أن يساعدنا على بث الروح فيما نقتبس. فالروح تأتي من المعاني التي نسوقها لفهم الواقع و التصالح مع الواقع و التفاهم فيما بيننا. 

 إذا لم نتغلب على غريزة حب الانتصار بأي ثمن، حتى لو كان الثمن التضحية بالحقيقة، إذا لم نتجاوز الأنا الأنانية فينا، إذا لم نخرج من مرض الغرق بالذات نحو فهم العالم الموضوعي، أي الموضوع أمامنا وليس الذي نتصوره في رؤوسنا، فلا قيمة لكل ما نقتبسه و نستشهد به و نبروزه على صفحاتنا. فقط عندما تكون لدينا غاية الفهم، و إرادة إغناء العقل و التفكير بأفكار جديدة، يصبح للاقتباس مكانه الطبيعي. غير هذا فالاقتباس منقوص الشرح و التبرير لا معنى ولا قيمة له. إنه ببساطة اقتباس ميت لفكرة حية. 

العقل من عقال. عَقَلَ البعير أي ربطه. في الانكليزية العقل reason  سبب؛ أي فهم الأسباب خلف ما نلحظه من ظواهر. الحبّاك أو الحبّال يربط الخيطان أو الحبال ببعضها،  أي يشبكها و يعقلها ببعضها لتكوين شبكة صيد جيدة. شبكة الصيد المربوطة ببعضها جيداً تصطاد السمك بشكل أفضل. عقولنا شبكات مفاهيم، أو شبكات صيد تلتقط الأفكار الجيدة و تعيد إنتاجها مع غيرها من أفكار تسكن عقولنا. إذا كانت شبكات عقولنا محبوكة الأفكار جيداً استوعبنا و أعدنا إصدار الأفكار التي نلتقطها على نحو مترابط منسجم مع غايات التقدم في المعرفة الإنسانية، و فهم الواقع، و التفاهم فيما بيننا. 

لسوء الحظ فإن أدوات العقل التي يمكن أن تساعدنا على التقاهم ضعيفة جداً. كيف نتفاهم و كل طرف يتقدم إلى الحوار مردداً ما حفظه دون أن يصغي إلى الآخر. الحفظ الذي تعودنا عليه يكاد يكون أسوأ أمراض مجتمعنا. جذور الحفظ والتحفيظ عميقة في مجتمعاتنا. إنظروا إلى التعليم و سترون فداحة هذا المرض. في السنوات الأولى من أعمارهم يبدأ الأطفال بتأمل العالم من حولهم و يبدؤون  بطرح مئات الأسئلة باليوم. لكنهم في مجتمعاتنا لا يحصلون إلا على نذر يسير جدا من الأجوبة. وظيفة الأطفال في بيوتنا ومدارسنا أن يستمعوا و يحفظوا و يطيعوا، لا أن يكونوا كثيري الغلبة بأسئلتهم ورغبتهم بالنقاش!. يكبر الأطفال و تبقى تطاردهم ظاهرة الحفظ، إلا من قلة تمردت و راحت تصر على المحاكمة وإعادة التفكير. نظامنا التعليمي برمته مبني على حشو أذهان الطلاب بالمعلومات أكثر مما هو معني بتنمية قدراتهم على التفكير. إنه لا يساعدهم على تعلم كيف يبنون رأياً، وكيف يكتبون موضوعاً له هدف محدد. تقييم أداء الطلاب يتم وفق تقيدهم بما حفظوه غيبا عن المعلم أو الكتاب، لا وفق قدراتهم على المحاكمة و إعادة صياغة الأفكار من منظور جديد. 

في مثل هذا المناخ لا غرابة إذاً أن تكون هوامش المبادرة والنقاش ضيقة جداً. و لا غرابة أن ينظر للنقد على أنه اساءة أو ربما كفر. في مثل هذه الأجواء لا يوجد ما نتغنى به غير الماضي وغير استعارة أفكار من غيرنا و ممن سبقونا، و إعادة نقشها على صفحاتنا. لكن نقلنا عنهم لا يتجاوز في أغلب الأحيان نقل رماد أفكارهم. أما جذوة الفكر المتقد التي أنتجت هذه الأفكار فغالبا لا نراها، ولا نبحث عنها و لا نضيف لها معان جديدة كي تتألق شعلة الفكر من جديد. انظروا إلى هذا الرماد المنتشر على شكل اقتباسات لأقوال وأحاديث وتعاليم معزولة عن سياقاتها ولا تُعرف الغاية من تكرارها، و بروزتها دون شرح ولا رأي. ألا يظهر هذا ما فعلته فينا نزعة التلقين، والحفظ الصم، و النقل الصم!؟

لكن رغم كل السوداوية فيما نراه من سوءٍ بالتعليم، و رغم انحدار حواراتنا أحيانا كثيرة نحو التشاتم، أو التمادح، و رغم هيمنة نزعة “التلقين”، فلا بد أن هناك فتحة نور تفتح الفرص لكل صاحب إرادة كي يرى، و يقول رأيه. و ما على كل عاقل إلا يبحث عن فتحة النور هذه كي يتنور و يساهم في التنوير مع كل تواق للفهم والتفاهم. وظيفة أهل العقل مخاطبة العقول و تحفيزها، و ليس تنويمها من كثرة التكرار والنسخ واللصق دون إضافات تذكر.

Print Friendly, PDF & Email