الطائفية، مرض الوطن القاتل (Sectarianism, the homeland’s murderous disease)

No to sectarianism
بقلم منذر هنداوي

الطائفية أكبر مرض في بلادنا، لكنها الأقل تناولاً كمرض يحتاج الى دراسة و فهم و علاج. علاجها تم حتى الآن بتجاهلها. تجاهلناها وتصورنا أنها غير موجودة. لكنها كانت موجودة دوما و تستفحل. نادرا ما كانت ترد في أحاديثنا مفردات “طائفية”، “سني”، “علوي”، “شيعي”. كان النطق بإحدى هذه الكلمات يشبه الكُفر. وهي في حقيقتها صارت كُفر. صارت كفر بالدِّين و بالله، و بالإنسان والمجتمع. كفر يحكم كثيراً من تصرفاتنا و يقف خلف كثير من أحكامنا تجاه الآخرين. صار الانتماء لطائفة أول اداة لتقييم الآخر. فمثلا إن كان هذا المفكر ينتمي للطائفة “الأخرى” فهو متهم مهما كان موضوعياً. و إذا كان من “طائفتنا” فهو بريء، أو منزه مهما تصرف بطائفية. أليس هذا هو الكفر!؟. نعم إنه كفر. لكنه كفر سري ضمني لا يعلن للعلن. لكن في دوائر الطوائف المغلقة يتم الكفر الطائفي بأبشع صورة، حيث يتم التصنيف الطائفي، والتقييم على أساس طائفي، وبث الحقد الطائفي تجاه الآخر. 

إذا كانت الطائفية كفر فإن تجاهلها أكبر كفر. في بلادنا تجاهلنا الطائفية كلياً. في الهوية الشخصية لا يذكر اسم الطائفة. كان من شبه العيب ان يذكر شخص اسم طائفته. لكن مجتمعنا طور أكثر من وسيلة للكشف عن انتماء الشخص لطائفته. ومتى تم تعيين طائفتك التي ولدت فيها حسم الأمر. أنت من الطرف الآخر و لست منا!. أو انت منا و لست من ذلك الطرف الآخر اللعين!

يا للعار! من هو هذا الطرف الآخر اللعين؟ هل هو من سلالة غير سلالة الإنسان؟ من سلالة القرود مثلاً؟ أم سلالة الشيطان؟ هل هو لاينتمي إلى هذه الأرض وهذه البلاد منذ مئات او ربما آلاف السنين؟ بم يختلف عنا؟ بم يختلف السني عن العلوي وعن الشيعي  وعن الدرزي؟ أين نبدأ في البحث عن هذا الخلاف. هل نبحث عن الخلاف في الجذور التاريخية الأولى بين المسلمين الأوائل. أجزم أن أغلب أفراد الطوائف لا يعرفون إلا القليل القليل جداً عن تلك الجذور التي تأسس عليها بناء الطوائف. أنا لم أعرف مثلا أن خالد بن الوليد كان رمزاً سنياً إلا في هذه الحرب. و لم أسمع بأن السنة هم أحفاد يزيد ومعاوية إلا في هذه الحرب. استمعت في هذه الحرب إلى محطات طائفية كريهة مقيتة من كل الأطراف. استمعت إلى خطباء مفوهين يجيدون كل أنواع التحشيد و التحميس و الضخ الطائفي المقيت من كل الأطراف، لكن عقولهم كانت خاوية بائسة مفعمة بالشذوذ عن كل قيم الخير في الإنسان.

فهم الطائفية و كيف قسمت مجتمعنا في هذه الحرب لا يتم بدراسة أصل الخلافات بين المسلمين الأوائل، و لا بدراسة الفروقات في تفسيرات الدين التي أنتجت المذاهب. الطائفية لا علاقة لها بهذه الأصول مهما حاول المنظرون الطائفيون لصق أنفسهم بهؤلاء المسلمين الأوائل. فقد يكون المرء من أشد المؤمنين برسالة الدين الذي يؤمن به دون أن يكون طائفياً. بالمقابل قد يكون المرء ملحداً لا يؤمن بالدين برمته ومع ذلك طائفياً. الطائفية ليست في انتمائك لطائفة، ولا في قناعاتك في هذا المذهب أو تلك الطائفة. الطائفية تبدأ عندما يتم استغلال مبادئ المذهب لأغراض سياسية من قبل نخبة ضمن الطائفة. الطائفية تستفحل عندما يتم التمييز بين الناس على أسس انتمائهم للطوائف. فعندما تتقدم للعمل و تستبعد لا لنقص في مؤهلاتك، إنما لمجرد انتمائك لتلك الطائفة فهذا يؤشر إلى طائفية تُمارس ضدك. وبالعكس إذا كان مجرد انتمائك لطائفة ما يمنحك مباشرة مزايا لا يحصل عليها غيرك من أفراد باقي الطوائف فأنت أمام طائفية مقيتة. في ظل هذا التمييز تصاب المواطنة في مقتل، و يتراجع الانتماء للوطن، بينما يتقدم الانتماء للطائفة. تلك هي الأرضية التي ينتعش فيها مرض الطائفية والصراع الطائفي. 

تفشي الطائفية لا يعني أنها عصية عن المعالجة. بل يمكن معالجتها والبراءة منها. لكن شرط العلاج الأول هو الاعتراف بوجودها. و الشرط الثاني هو عدم المراوحة عند الأسباب التي تسببت فيها. فهذه المراوحة لا تصب إلا في تبادل الاتهامات و بالتالي تجذير الطائفية أكثر في واقعنا عوضا عن تركيز العمل لاقتلاعها من المجتمع. كل الطوائف نمى فيها طائفيون ساهموا بشكل أو بآخر في تاجيج هذه الطائفية المقيتة. مسؤوليتنا جميعا كمواطنين أبناء وطن واحد أن نتخلص من جميع أسبابها و من أصحاب المصالح فيها و من كل مظاهرها. هذه المسؤولية لا يمكن أن تتم بعقلية الإقصاء لأي طرف يريد الخلاص لهذا الوطن. 

قضيتنا الأولى ليست إعادة كتابة دستور جديد، فكل الدساتير يمكن أن تخترق و تنتزع منها روحها لتصبح طيعة بيد القوى المسيطرة. قضيتنا ليست في اختيار هذا الشكل أو ذاك من أشكال الديمقراطية، فصندوق الإقتراع في مناخ طائفي لن يحل قضية الطائفية في بلدنا، بل قد يؤججها. قضيتنا الأولى بناء دولة القانون والمواطنة. قضيتنا في توفر إرادة فاعلة في الدولة تمكن المواطن من استعادة حقوقه. قضيتنا في قدرة الدولة على ضبط التمييز الطائفي بكل أشكاله و المحاسبة عليه أشد حساب. قضيتنا في قدرة الدولة على فرض احترام القانون على الجميع، بأن لا تكون الدولة أول من يخرق القانون. قضيتنا في محاربة الفساد وأسباب الفساد، و محاسبة الفاسدين الكبار قبل الصغار. 

قضيتنا الأولى و الأخيرة في إعادة معنى المواطنة في الوطن. فهل نحن في صدد مواجهة هذه القضية؟! أم أنها ستبقى مؤجلة ويبقى النخر مستمراً في المواطنة و الوطن؟!

Print Friendly, PDF & Email