أين يكمن العيب؟ (Where does the defect lie?)

Criticism
قلم منذر هنداوي

قبل مدة كتبت موضوعاً بعنوان “العيب فينا“. كان هدفي محاولة كشف جوانب من عيوب التفكير فينا، والتي تحول دون فهمنا للواقع. الفهم الخاطئ يتبعه قرارات وتصرفات خاطئة و ربما قاتلة. بعض المهتمين ذهبوا بعيدا في تفسير عبارة “العيب فينا”. اعتبروها جلداً للذات، أو تملقاً للحكام المستبدين. 

أعتقد أن كل عاقل يرحب بالنقد كوسيلة للتفاهم. لكن يجدر التمييز بين نقد مبني على ‘الانطباعات’ و نقد مبني على ما ‘كُتِب’ و تم التعبير عنه بجمل محددة. النقد المبني على الانطباعات يمكن أن يأخذنا بعيدا جداً عن الهدف مما كُتِب، أما نقد رأي محدد فهو الذي يرتفع بِنَا و بفهمنا المشترك. أدعو كل ناقد إلى التخفيف من الاعتماد على انطباعاته لصالح نقد الأفكار المطروحة بهدف و سياق محددين. أدعوهم إلى عدم تحميل الكلمات و الجمل المكتوبة ما لا تحمله من معان. 

هناك دوماً من يكتب كي يتفهمن و يقلب الحقائق، و هناك من يكتب كي يفهم و يتعرف أكثر على الحقائق. لا أريد أن أحكم على أحد. القارئ المنصت والمهتم بالحقيقة يستطيع التمييز، و يختار. لكني أستطيع أن أحكم عن نفسي بأنني أؤمن بالحوار طريقا للتعلم والتفاهم بين الناس. لا ينقص بلدنا أهل الرأي و لا الأدباء و لا أصحاب الفكر و القلم، لكن ينقصنا جداً الحوار. 

بلا حوار نحن تجمع أفراد لا يعرفون بعضهم، بل يخافون بعضهم و يصورون بعضهم بأسوأ الصور. بلا حوار تتطور انطباعاتنا و أوهامنا عن بَعضنا لدرجة تجعلنا نتصور أن الطرف الآخر دمه أزرق، و ربما له ذيل يخفيه. الحوار الجدي يرمي بكثير من هذه الانطباعات و الأوهام جانباً كي نرى من جديد بَعضنا بشراً، لكل منا همومه و مخاوفه.

 لن نصبح مجتمعاً ما لم نعمل على تطوير الحوار وتطوير موضوعاته و ضبط “انطباعاتنا” المسترسلة بعيدا. هذا يجب أن يتطور في كل مؤسسات المجتمع من المدرسة حتى البرلمان. في الأسرة والمدرسة يجب أن نشجع الطفل بوقتٍ مبكر أن يقول رأيه، وأن نستمع إلى رأيه وأن نرد عليه باحترام، كي يتعلم بالممارسة كيف ينتقد باحترام. نحتاج أن نشجع الناس في الجمعيات و المجالس والبرلمان كي ينتقدوا بحرية ومسؤولية وليس فقط أن يسمعوا ويطيعوا. لن نصبح مجتمعاً قبل أن نتعلم الاصغاء للطرف الآخر قبل نقده. لن نصبح مجتمعاً قبل أن نُخرج نمط التلقين من عقولنا و نحل محله التعلم عبر الحوار. يكفينا تلقيناً وتحفيظاً و تعليماً مشوهاً من كل معلم يتصور أنه الأعلم أو الأفهم، أو أنه بالموقع الذي يخوله تعليم وتلقين الآخرين ما يجب أن يحفظوه و يتقيدوا به. 

لقد اكتشفت مؤخرا أن العصافير عندما تغرد في الصباح الباكر تتجاوب مع بعضها و تتناوب التغريد بإيقاع شبه منتظم لا يقل وقعاً في النفس عن سمفونية جميلة. ألا يمكن أن نتعلم منها! أعتقد أننا يمكن أن نتعلم منها، ومن شعوب أخرى تقدمت بفضل رفع مكانة النقد و الحوار في كل مؤسسات مجتمعها. مجتمعات واجهت مشاكلها وعيوبها بشجاعة فتطورت و ساعدت غيرها على التطور. ألمانيا لا تزال مثالاً حياً على ذلك. لقد كانت شجاعة الألمان في نقد النازية أشد بأساً من حروبهم و شجاعتهم القتالية التي قل نظيرها. 

نحن في بلادنا ليس أمامنا غير كشف عيوبنا و وضعها تحت مجهر النقاش و الحوار حولها كي نتعلم من أخطائنا، وكي نتغير. كل ما نحتاجه هو التخفيف من التغريد كل هواه لصالح الإصغاء المتبادل لبعضنا وقت ينبغي الإصغاء، و الحديث بصوت واحد عندما تتحد مشاعرنا و أفكارنا. بقدر ما نحْسن الإصغاء نفهم مقاصد بَعضنا. وعندما لا نفهم مقصد شخص فعلينا مساعدته على بلورة ما يدور في ذهنه عوضاً عن تقويله و تصيد هفواته بقصد كسره و التفوق عليه. فقط بوضع ضوابط للنقد المبني على اقتباس محدد موثق ننتقل من عالم المهاترة و الملاسنة إلى عالم الحوار. فقط بمثل هذا الحوار تتقدم مسيرة الفهم و التفاهم. بمثل هذا الحوار يمكن أن ننتقل من تجمعات متربصة ببعضها إلى مجتمع يحكمه العقل والتعقل.

الحوار الهادف هو ما يؤسس لمجتمعٍ هاجسه الحقيقة و ليس تزوير الحقيقة. مجتمع موضوعه التفاهم بين مكوناته و ليس التلاسن و التشاتم  والتذابح فيما بينها. مجتمع نشيده الوطني تناغم الإيقاع بين مكوناته وليس التطبيل كل على هواه. الوطنية ليست كلمات غيورة على الوطن نرددها فنصبح وطنيين. الوطنية فكر و فعل تساهم فيه بمد الجسور بين مكونات الوطن، وليس قطعها. الوطنية في تعلم حل المشاكل بين مكونات الوطن بالحوار وليس بالسلاح. فكم باسم الوطنية تم تدمير أوطان برمتها. وكم باسم الدين تمت الاساءة للأديان.

الهدف من تعبير “العيب فينا” واضح وبسيط. إنه يستهدف بالتحديد “المنطق الأعوج الذي يجيد التحشيد و الهوبرة الكلامية والمسخرة، ويتجاهل الحجة و الاستماع للرأي المخالف”. هذا عيب لا يخص الشعب، بل يخص من يتكلمون باسم الشعب من موالاة ومعارضة و أحزاب دينية ويسارية و ليبرالية وغيرها. ففي كل هؤلاء ابحثوا عن مثل هذا المنطق الأعوج و ستجدونه. لا شك أنه يوجد عقلاء بين كل هؤلاء، لكن العقلاء ليسوا من أوصل البلاد الى هذا الدمار. من أوصل البلاد إلى هذا الدمار هم أصحاب ذلك المنطق الأعوج الذين راحوا يحمسون و يدفعون الناس للقتال بينما هم واقفون بعيداً لا يمسهم سوء. 

ألسنا معنيون بمراجعة دور الفكر الذي ساهم بالترويج لهذه الحرب بعد كل هذا الدمار. إن لم نحاول الآن أن نتعلم الدرس من شدة ما أصابنا فمتى نتعلم؟ هل سنظل نرفع شعارات رددناها دون أن نعرف ثمنها: “ثورة ثورة حتى النصر”. هل الثورة كلمة مقدسة يجب دوما أن نغرسها في عقول أولادنا حتى يواصلوا مسيرة الثورة ضد الحاكم؟ ألا يوجد خيار آخر نتعلمه و نعلمه للأجيال القادمة؟ نعم هناك خيار آخر. تعليمهم كيف يفكرون و يميزون و يفهمون و يعقلون. تعليمهم المسؤولية في حساب نتائج ما يقدمون عليه. تعليمهم أن المفاضلة ليست دوماً بين حسن و أحسن، بل كثيراً ما تكون بين سيّء و أسوأ. وأن الانسان غالبا ما عليه الاختيار بين أمرين أحلاهما مر. علينا تعليمهم أن العاقل ليس من يتوكل دون أن يعقل. بل من يعقل ثم يتوكل. وأن من يعقل هو من يتعلم كيف يحسب نتائج ما سيقدم عليه. 

انظروا إلى الواقع. هل الدمار والتشريد والموت الذي اجتاح بلادنا كان ثمناً للحصول على الحرية و الديموقراطية التي صرنا ننعم فيها والحمد لله!. انظروا إلى المتحكمين بالمشهد السياسي للبلاد و قرروا من منهم يحمل راية الحرية والديمقراطية. المتحكمون بالساحة من المعارضة هم ميليشيات دينية تحتقر كلمة الديمقراطية و لا ترى دورا لها في الإسلام. و في الموالاة إسلام من نوع جديد تقدمه الدولة لقيادة المجتمع دينيا، كما تمثل ذلك بالصلاحيات الجديدة الممنوحة إلى وزارة الأوقاف. 

هل هذه النتائج هي ما توخاه الثائرون في الربيع العربي الذي تحول إلى فرن جهنمي تحترق فيه الأحلام بالحرية و الديموقراطية قبل أن يحترق البشر والحجر. بالتأكيد ليس هذا ما تصوروه. ولكن هذا ما حصل. هذا يعني أن هناك خلل في قراءة الواقع حجب رؤية هذا الاحتمال الذي صار واقعاً. هذا يجب أن يدفعنا إلى مراجعة فكرنا و تقصي العيوب الموجودة في تفكيرنا و التي منعتنا من رؤية احتمال الهبوط نحو هذا القاع المميت. هذا ليس جلداً للذات و لا تملقاً للحكام، و ليس فزلكة و لا تفلسفاً، إنما هو محاولة للتعاون بين أهل الفكر بين كل مكونات المجتمع في فهم كيف انحدرنا إلى هذا المستنقع. بدون هذا الفهم لن نخرج من هذا المستنقع الذي سقطنا فيه. هذه مسؤولية أخلاقية على أصحاب الفكر أن يمارسوها لا أن يتهربوا منها كي يوهموا الناس اننا بخير لولا أن الشيطان فعل ما فعل.

Print Friendly, PDF & Email