رد على مقالة الديمقراطية و الشورى (Response to the article Democracy and Shura)

'We want democracy"
بقلم منذر هنداوي

بدأت كتابة هذه المقالة كملاحظات كتبتها حول منشور يتحدث عن الفرق بين الديمقراطية والشورى. لا أعرف اسم صاحب المقال لكنني وجدته على صفحة أحد الأصدقاء على أنه منقول من صفحة أخرى. لمن يريد مراجعة المقال فقد وضعته في التعليقات.

لفت المقال نظري ليس لأهمية معلوماته ولا لثورية لغته القطعية، إنما للتحدث من منطق يتصور أنه مناصر للديمقراطية لكنه في الجوهر لا يختلف عن أي موقف متطرف دينياً. في مقدمة المقال يشدد الكاتب على الاختلاف الكلي بين الشورى والديمقراطية كونهما تطورتا بحضارتين مختلفتين. فهو يرى أنهما، وأقتبس منه، “يحملان في حروفيهما حمولاتٍ وإيحاءاتٍ وظلالاً تاريخية وعقدية وثقافية ولغوية وحضارية لا يمكن- بهذه الحمولات والإيحاءات- أن يمتزجا في نفس إنسان وروحه وعقله أبداً”

قبل أن أعلق على المعاني المتضمنة في هذه الفقرة يجب أن أشير إلى أن من يريد أن يمنع الديمقراطية باسم الإسلام أو باسم أي دين أو باسم الشورى لا علاقة له لا بجوهر الإسلام ولا بالشورى. إنه مجرد متطرف دخل بطرف الدين و لم يدخل بجوهر أي دين أو فلسفة. و يمكن العودة لمناقشة هذا الرأي لاحقاً.

عودة إلى مضمون تلك الفقرة. لا شك أن هناك فروقات كبيرة بين مفهومي الديمقراطية والشورى، و تاريخ تطورهما والبلدان التي تطورت فيها كل منهما. لكن هذه الفروقات لا تمحي التماثلات بينهما. هذا الفصل القاطع الذي يتصوره الكاتب يطرح السؤال: هل الهوية معطىً ثابتاً لا يتغير؟  ألا تتعلم الشعوب من بعضها؟ ألم تتطور حضارات مختلفة من خلال التعلم من، والبناء على حضارات شعوب سابقة ؟. اليابان التي كانت تختلف بتاريخها و ديانتها و نظم عيشها عن أوروبا قبل القرن ٢٠ أصبحت الآن في سلوك شعبها، و طرق إدارة مؤسساتها، و مدارسها، و في نظام حكمها السياسي تنافس في ديمقراطيتها أكثر الدول الأوروبية تقدما و ديمقراطية. التغير سمة حياة الدول والشعوب و الأفراد, بل و الكون برمته. الهوية ببساطة ليست معطىً ثابتاً، بل إنها تتغير.

إن نوع الاختلاف في مدلولات الديمقراطية و الشورى ليس من نوع الاختلاف بين النهر والعفريت مثلاً. بل هي من نوع الإختلاف بين النهر و البحر. ماء النهر عذب، ماء البحر مالح. مياه النهر تسير في مسارها، مياه البحر تتماوج بحدودها. لكن رغم نوعية الاختلافات بين النهر و البحر فإن التماثل بينهما كبير في أن كلاهما ماء. و كذلك الجوهر في الديمقراطية و الشورى هو التشاور والتحاور و بالتالي تقدم الوعي.

لو أردنا اتباع منطق الفصل المطلق الوارد في مقدمة المقال فإن هذا يعني أن الديمقراطية اليوم منفصلة بنفس القدر عن ديمقراطية أثينا قبل ٢٥٠٠, ذلك لأن ديمقراطية أثينا كانت ديمقراطية أسياد قائمة على استعباد العبيد الذين لا حق لهم بالممارسة الديمقراطية. لكن رغم هذا فإن جذور ديمقراطية العصر الراهن كائنة في ديمقراطية أثينا ما قبل المسيح، و يوجد بينهما صلة رحم في طرق اتخاذ القرارات و طرق التوصل الى قرارات مدروسة أكثر. هاتين الديمقراطيين متماثلتان في إعلاء شأن الحوار كوسيلة للكشف عن العيوب و التوصل إلى فهم أفضل لنتائج ما سيتم اتخاذه من قرارات.  كلا الديمقراطيين تساهمان في تقدم مسيرة الفهم والوعي. هذا هو الجوهر.

الديمقراطية ليست انتخابات وحسب. إنها نمط تفكير يؤمن بضرورة طرف آخر ليس من أجل التسلية بالنقاشات و التجاذبات في الرأي في المجالس والبرلمانات. بل يؤمن بالطرف الآخر للتحاور معه و للتقدم بالوعي عبر نقاشه و استبعاد العيوب فيما يقدمه من طروحات و أفكار. إنها أداة لتحسين الوعي و تحسين القدرة على الوصول لأفضل القرارات، و لتحسين الوعي بحساب نتائج ما نقدم عليه. إن لم تمنحنا الديمقراطية الفرصة لتطور الوعي فهناك بالتأكيد خلل ما في ممارستها يستوجب البحث عنه. و إمكانية الخلل كامنة دوما و تنتظر من يطلقها حتى في أكثر الديمقراطيات تطوراً.

 في القرن الماضي حصل خلل في الديمقراطية الألمانية أدى لصعود هتلر. لكن بعد الحرب قال مفكرون ألمان، و ردد خلفهم معظم الناس، أن الهزيمة كانت أفضل لهم من النصر. لماذا؟ لأن نصر النازية معناه تراجع الوعي و المنطق و تراجع القدرة على الإبداع. خسر الألمان الحرب لكن ربحوا الوعي و عادوا إلى إنسانيتهم. الأمر نفسه ينطبق على اليابانيين الذين خسروا الحرب و لكن ربحوا تطوير دولة المواطنة التي يحميها أفرادها بمدى وعيهم و حل اختلافاتهم بالحوار و التفاهم.  الآن هناك خطر محدق بالديمقراطية في أمريكا متمثل ب ترامب و بالتيارات الشعبوية التي بات يمثلها.

الديمقراطية والشورى فيهما كثير من العناصر المشتركة. آية “و أمرهم شورى بينهم” فيها رسالة ضد الاستبداد بالرأي و دعوة للحوار والتشاور. ما طوره الحكام المسلمين لاحقاً من مجالس للشورى لا يعكس بالضرورة جوهر الرسالة من هذه الآية. هناك مجالس شورى صممت كي تمنح سلطة الحكام شرعية إلهية. لكن هذا ليس موضوع البحث هنا. الحديث هنا عن كلمة الشورى و صلتها بالديمقراطية. إنهما بالجوهر متقاربان من حيث تبني الحوار والتشاور كوسيلة لاتخاذ القرارات الأنجع. أي أنهما متشابهان بالرسالة التي تسهم بتطور الوعي عبر التحاور. الاختلاف بينهما هو في المؤسسات التي تم تطويرها للوصول لممارسة هذا الحوار أو التشاور. فبينما يعين مجالس الشورى الحاكم أو الملك فإن المجالس البرلمانية تنتخب من الشعب. هناك اختلافات أخرى بالتأكيد. فبينما مثلاً يبقى دور مجالس الشورى إبداء الرأي و النصح للحاكم فإن المجالس البرلمانية المنتخبة لها سلطات أكبر في سنِّ القوانين. لكن هذا لا يخفي أننا نتحدث بالنهاية عن مضمون نريد الوصول إليه و هو مجالس تدار فيها حوارات تفضي في تقدم الوعي. مجالس تفتح باب الحوار الحر الهادف بغض النظر عن تسميتها.

ألا توجد برلمانات منتخبة تحولت فيها المناقشات الى مهاترات أو منازلات أو مزايدات؟ نعم يوجد. ألا توجد أنظمة بشكل ديموقراطي لكن بمضمون استبداد؟ نعم يوجد. ألا توجد مجالس شورى يمكن أن تساهم بكفاءة بتعزيز وعي المجتمع أكثر من بعض المجالس المنتخبة؟ نعم يوجد.

مجلس اللوردات في بريطانيا يشبه بتركيبته و بطرق تعيين اللوردات فيه مجالس الشورى المعينة في الأنظمة الملكية. أكثر المعينين الجدد فيه شخصيات عامة كانت من كبار الشخصيات السياسية و الفكرية أو رؤساء وزراء سابقين في الدولة. حتى عهد قريب كان الإبن الذكر يرث منصب أبيه اللورد ليصبح لورداً عضواً في مجلس اللوردات. هذا المجلس، رغم عدد من العيوب التي تشوبه ما يزال يمتلك سلطات تشريعية فوق البرلمان المنتخب. كل مشروعات القرارات التي يتبناها مجلس العموم المنتخب يجب أن تمر على مجلس اللوردات حيث يتم التدقيق فيها. و للمجلس صلاحية رد تلك القرارات لمجلس العموم لإعادة الدراسة و التحسين عليها. و رغم محدودية صلاحيات مجلس اللوردات مقارنة بصلاحيات مجلس العموم فإنه يبقى أداة فعالة في التوعية حول مكامن الضعف في القرارات التي تتخذ بمجلس العموم. و هو بهذا الدور يعزز الوعي ويسهم بترسيخ الديمقراطية البريطانية.

مشكلتنا ليست بالكلمات. ليست بتسمية هذا المجلس برلماناً أم مجلس شعب، أم مجلس شورى. مشكلتنا بالفكر الذي يستخدم هذه الكلمات. الفكر الذي يجعل من هذه الكلمات أصناماً يتقاذف بها. الكاتب يحتج على كلمة شورى. يحتج على المجتمع الذي تطورت فيه. يحتج على كلمة استعمار التي يرى أن أصلها من إعمار بينما المستعمر هو بالحقيقة محتل حسب رأيه. الكاتب يحتج على عبارة الشذوذ الجنسي لأنه يراها متحيزة و مضللة و يفضّل استخدام كلمة المثلية الجنسية عوضاً عنها. لكن أودّ أن أسأل لو أننا رمينا كل تلك الكلمات المخادعة التي يرفضها الكاتب فهل ستحل مشكلتنا و يتقدم الفكر في بلادنا؟! بالتأكيد لا. فمشكلتنا أكبر بكثير من مجرد تسميات غير مناسبة.

مشكلتنا في فكر يمثله هذا الكاتب أفضل تمثيل. فكر يتصور أن الديمقراطية هي الحل دون أن يدرك مستلزمات إنجاح الديمقراطية و ضرورة بث الحياة فيها باستمرار. مشكلتنا في فكر يتصور أن الثورة بركان غضب يقلب كل شيء إلى نعيم عندما يثور الشعب! وهكذا لم تبقى ثورة ثورة حتى النصر!. مشكلتنا في سلب الكلمات حيويتها و تغيير دلالاتها وتحويلها إلى أصنام نتقاذف بها.

كيف لا يتقاذفون بالكلمات و قد اكتشف الكاتب أن “المصطلحُ احتِلَالِيُّ بِطَبْعِه”. و يبدو أن المصطلح احتل عقله في هذه المقالة. لكن المصطلحات أو الكلمات ليست هي من احتلت عقول المتظاهرين الذين كانوا يتظاهرون ضد “المستعمر” في سورية أيام الإنتداب الفرنسي. إنهم لم يكونوا يتظاهرون ضد كلمة “الاستعمار”، و لا لأن المحتل خدعهم بأنه قال عن نفسه أنه مستعمر يُعمّر بلدهم، بينما هو مجرد محتل! لقد تظاهروا لأسباب كثيرة ليس من بينها التسميات. كانوا تظاهروا لأنهم كانوا يريدون الاستقلال و يتصورون أنهم قادرون على إدارة دولتهم بخبراتهم الوطنية.

لماذا هذا الرفض لكمة الاستعمار و استخدام كلمة احتلال. هل هو لمساواة اجتياح المغول التدميري مع الإحتلال الأوربي في العصور الحديثة. ألا توجد فروقات بين احتلال و احتلال؟ ألم يساهم الإحتلال البريطاني بجعل هونغ كونغ من أكبر مراكز المال في العالم؟!. ألم يُدخل الفرنسيون معاني دولة القانون والديمقراطية إلى سورية و لبنان حتى قبيل منتصف القرن الماضي؟ هل يتساوى ما فعله تيمورلنك بدمشق مع ما فعله الفرنسيون في سورية!؟. أم أنه كله احتلال بغيض و انتهى الأمر؟!

الكاتب لم يأبه لهذه الفروقات بين محتل ومحتل. فمهمته تعرية الشورى و رميها من النافذة. لكن تصورات متطرفين حول الشورى لا تعني أنهم يعرفون معنى و قيمة الشورى و التشاور. تصورات هؤلاء هي القاصرة، وليست الشورى. يقذفهم الكاتب بديمقراطيته متهما إياهم بأنهم من “المتخلفين القادمين من عصر الجمل”. لكن عصر الجمل طور فكراً لا يمكن إنكاره حتى من خصوم ذلك العصر. هؤلاء المتشبثون بقشور الشورى ليسوا من ذلك العصر، بل من الإنحطاط الذي يجتاح بلادنا في هذا العصر.

الكاتب مستعجل على الممارسة الديمقراطية. يقول “لا تُكثر الكلام، الشعبُ هو البَدء والمنتهى”. انتهى الأمر. قضي الأمر. إنها الديمقرطية! إنها نهاية العذاب و بداية الراحة و التمدد و الاستمتاع و القرارات العظيمة وفق الأغلبية!. لكن هل حقاً إنتهى الأمر. ألا يمكن لشعب ما أن يصوت لمن يمكن أن يضر بمصالحه!؟ ألم يصوت الشعب الألماني لهتلر؟!. ألم ينتخب الأمريكان ترامب رغم معرفتهم بكل عيوبه؟! الشعب ليس هو البداية و المنتهى. وعي الشعب هو البداية والنهاية. و الذي ضاع في المقال المذكور هو الوعي و التوعية بأننا نتكلم عن مفاهيم. مفاهيم تطورت كي تساعدنا على الفهم و تحسين رؤيتنا للواقع بعقولنا.

المتربصون بالديموقراطية ليسوا بعيدين عنا. إنهم في عقولنا التي تحنط الكلمات و اللغة و تسلبها حيويتها. المتطرفون دينيا جعلوا كثيرا من الكلمات أصناماً عندما حرفوها عن سياق معانيها. شأنهم في ذلك شأن المتطرفين ماركسيا، و المتطرفين اشتراكياً، و المتطرفين قومياً. و الآن مع كاتب هذا المقال يجب أن نضيف المتطرفين ديمقراطياً.

بين كل أنواع التطرف قاسم مشترك كامن في المغالاة والمراوحة عند طرف الموضوع. إنه الشد نحو الطرف بعيداً عن الجوهر. خطر التطرّف كامن دوما في كل واحد منا. كامن في كل شخص غير قادر على إعادة النظر بفكرة آمن بها أو برأي تبناه. الاستعداد لإعادة النظر هو نقطة البداية في التعلم وتطور الوعي. لا ديمقراطية إذا لم ننتبه إلى أهمية تطوير الوعي فيما بيننا. و لا شيء يطور الوعي أكثر من الحوار المنظم الهادف بمجالس ينشئها المجتمع لمعالجة القضايا المطروحة عليه.

Print Friendly, PDF & Email