ماذا يجب أن تعلمنا هذه الحرب؟ (What should the Syrian war teach us?)

Rubble of Syrian civil war
بقلم منذر هنداوي

هذه الحرب نالت منا جميعاً. صار السوري لاجئاً بعد أن كان له وطن. صار منبوذاً ممنوعاً من دخول معظم دول العالم بما فيها أغلب الدول العربية. في وطنه صار على المواطن أن يتوقف مذلولاً على حواجر ينتظر استجوابه من أناس لم يعرفوا سورية ولا شعبها ولا لغتها. أناس تسللوا من كهوف التاريخ كي يفرضوا علينا تصوراتهم وهمجيتهم. مرتزقة ومرضى نفسيون من كل بقاع هذه الأرض أتوا كي يسترزقوا و يمارسوا شذوذهم النفسي بهدر دماء السوريين باسم عقائد لا تمت لدين أو لمنطق. دول مارست أسوأ سياسات الخداع كي يبقى النزاع مستمراً وكي تستنزف سورية حتى الرمق الأخير.

كلنا خسرنا في هذه الحرب. الدولة خسرت. الشعب خسر. المعارضة والموالاة، و اليمين واليسار كلهم خسروا. وحتى الكلمات التي استحوذت على عقول الناس خسرت قيمتها. قالوا إنه الربيع العربي. وصنفوا سورية من بلاد الربيع العربي. لكن عوضاً عن الربيع حصلنا على كارثة غير مسبوقة في التاريخ. كارثة هي من صنعنا نحن السوريين أولاً. وهي من صنع بقية دول العالم ثانياً. لا يكفي أن ننتقد هذه الدولة أو تلك لأنها دعمت خصومنا، أو لأنها ورطتنا وتخلت عنا. المسؤولية تقع علينا جميعاً كسوريين، فنحن من أشعلها، ونحن من فتح الباب للقوى الأجنبية كي تتدخل، ونحن من لم يدرك أن مثل هذه النتيجة التي وصلنا إليها يمكن أن تحصل. كم من المتحاربين و الثوار المفترضين كانوا يرددون بأن النصر قاب قوسين أو أدنى. لكن عِوَضا عن النصر تقاسمت دول أجنبية مناطق في سورية، وطالت مدة الحرب، واستنزفت البلد، و تقلص دور السوريين في تقرير مستقبلهم مقابل تعاظم  دور الدول المتدخلة. وبقي السوريون بكل أطيافهم وقود الحرب.

بعد كل ما حصل هل هناك من خيط أمل يمْكن للسوريين أن يتمسكوا به؟ في عالم وعلم الاحتمالات لا شيء مستحيل. فهناك دوماً أمل. لكن هذا الأمل رهن بتغير في العقليات التي قادت إلى كل هذا الدمار. لا سلام و لا ازدهار ممكن بنفس العقليات التي ما تزال تراوح حول التبرير، واللوم، ولعن الحظ العاثر، وتحميل المسؤولية لكل الأطراف إلا نقد الذات. يجب أن يحصل تغيّر في هذه العقليات إن كان للأمل أن يشرق في بلدنا. إذا علمتنا هذه الحرب كيف يراجع كل طرف نفسه و كيف يحاول فهم مخاوف خصمه فسيكون هناك أمل. إذا توقفنا عن شيطنة الآخر لأدنى خطأ و عوضاً عن ذلك قبضنا على الشيطان الذي يتلبسنا من وقت لآخر فهناك أمل. لا السعي المسعور نحو شيطنة الآخر، ولا المغالاة في تأليه الفرد تحملان الأمل بغد أفضل. الشيطنة والتأليه وجهان لعملة واحدة مزيفة لا تفعل غير تحطيم العقل وتعميق الكراهية و تجهيز النفوس لحروب أكثر تدميراً.

ربما كان الدرس الأول من هذه الحرب هو أن أي دولة أفضل من اللا دولة. أي دولة مهما عشعش الفساد فيها، لكن تحكمها قوانين يمكن الاحتكام إليها، أفضل من حالة انعدام القانون وفلتان القوى المسلحة التي رأينا كيف نقلتنا إلى عالم الغابة. أكثر من ١٤٠٠ فصيل مقاتل نبّذوا كالفطور في كل بقعة من سورية. قوتهم بسلاحهم و ليست بعقولهم. فهم يكرهون العقل و المنطق و يسيرون خلف ما حفظوه دون أن يعقلوه. بهذا الكم الهائل من التنظيمات صارت السيادة للزعران والمتوحشين والمعفشين والطائفيين والمزورين والأنذال. صار مراهق أحمق يحمل السلاح يتحكم بمعلم كبير غير مسلح.

هناك تسجيل تم تبادله على نطاق واسع ينتقد من صاروا يقولون “كنّا عايشين”. و يشرح التسجيل كل العيوب التي كان المجتمع يعيشها و يتساءل مستنكراً هل كانت تلك عيشة! طبعاً لا أحد ينكر أنه كانت هناك عيوب كبيرة في معيشتنا قبل الحرب، وأننا لم نكن “عايشين” أفضل ما يمكن. لكن بالمقارنة مع ما انحدرت إليه سورية فقد كنّا بالفعل نعيش أفضل بألف مرة مما نحن فيه الآن. و أجزم أنه لو تصور عقلاء ممن قادوا الحراك الشعبي في بداياته بأن النتيجة هي كل هذا الموت و التشريد والدمار لما أعلنوها ثورة ؟!. لكنهم لم يحسبوا جيداً نتائج ما أقدموا عليه. لم يقدّروا حجم التطرّف الكامن و القابل للنمو في بلدنا. لم يدركوا مدى مصالح الدول الإقليمية و العالمية في سورية. والنتيجة هذا الدمار.

الدرس الثاني الذي يجب تعلمه أن أحداً من دول العالم لن يساعدنا في نهضتنا إن لم نكن قادرين على مساعدة أنفسنا والتفاهم فيما بيننا. معظم من مدّوا أيادي المساعدة للسوريين وخاصة دول المنطقة تبين أن مساعدتهم لم تكن لوجه الله بل كانت لوجه الشيطان ولوجه مصالحهم وحساباتهم الخاصة. معظم السوريين فقدواالثقة فيمن قدموا أنفسهم كأصدقاء لسورية بينما تصرفاتهم أثبت أنهم مجرد محتلين مستثمرين في المحرقة السورية. همهم أن يسرقوا خيرات بلدنا، ويستولوا على أراضينا، و يتحكموا في قراراتنا. وأكثر الأطراف انتهازية كانوا من دول إقليمية يدَّعون الإسلام، بينما هم في الحقيقة مجرد تجار مستثمرين في الطائفية.

هذا الدرس تعلمه مقتدى الصدر في العراق عندما تحالف مع شيوعيين و ليبراليين ويساريين وسياسيين سُنة، القاسم الأكبر فيما بينهم جميعاً أنهم عراقيون و يريدون ان يكون القرار عراقياً مستقلاً وطنياً غير طائفي ولا إيراني أو أمريكي. ورغم كل مأسي العراق و أحزانه فإن هذا التوجه في العراق إنما ينم عن وعي كبير وأمل بمستقبل مشرق. فلا شيء أكثر إشراقاً في أي بلد من أن تتقدم الوطنية والمواطنة في وجه الطائفية والعنصرية والشعبوية. وهذا ما يعطينا الأمل نحن السوريين كي نسير على نفس الطريق في تطوير وطنية سورية تكون أساس دولة القانون والمواطنة.

الدرس الثالث الذي يحب أن نتعلمه هو أن علينا أن نتخلص من عقلية الإنكار التي تحول دون المكاشفة و المصارحة و فهم الواقع كما هو. الإنكار قبل أن يكون سياسة تضليل هو حالة ذهنية تعيق رؤية الواقع كما هو. حالة ذهنية تجعلنا نختصر الواقع بكلمات. لكن الواقع يأبى أن يحصر بكلمات. الواقع يتغير ويتطور و يحتاج التعبير عنه إلى تطوير مستمر للكثير من كلماتنا و مفاهيمنا، لكننا كثيراً ما نتوقف عن هذا التطوير. كلمات مثل”ثورة” و “مقاومة” و “تحرير” و “جهاد” طورها البشر للتعبير عن واقع و عما يريدون فعله تجاه تطوير الواقع. لكننا حولنا هذه الكلمات إلى أصنام نعبدها ونخوّفُ الآخرين من الاعتداء على حرماتها. وأكثر الكلمات التي حولها ثورويون إلى أصنام هي كلمة ثورة. وهي أكثرها بحاجة إلى مراجعة.

عندما طور البشر كلمة ثورة أرادو أن يشيروا بها إلى حالة تغيير عميق نحو الأحسن ولو باستخدام العنف الشعبي. لكن العنف ليس شرطاً لازماً. التغيير يمكن أن يحصل بلا عنف. و يجب أن يحصل بأقل عنف ممكن. في تشيكوسلوفاكيا حصلت ثورة سموها “الثورة المخملية” لأنه لم يحصل فيها أي مواجهة عسكرية أو قتل. لكنها كانت ثورة نقلت المجتمع من نظام اشتراكي الى نظام ليبرالي رأسمالي. لم يشهد المجتمع التشيكي أي نزعة انتقامية. في سورية حصل العكس تماماً. الحراك المدني الحضاري السلمي في المدن الكبيرة قتل في مهده لحظة انتشار التسليح. العنف والانتقام حلّا محل ارادة التغيير نحو الأحسن. قوى يسارية وليبرالية وديمقراطية فقدت البوصلة و روّجت لفصائل متطرفة فقط لأنها تقاتل النظام. ورغم أن الحراك السلمي تحول إلى حرب أهلية طائفية مدمرة بقيت هذه القوى تتحدث عن “ثورة”! الواقع تغير لكن النظرة الزائغة  للواقع لم تتغير. الأصنام التي عبدها الناس كسرت من قرون، لكن أصنام العقول المتحجرة ما تزال تدفعنا نحو الهاوية. الثورة الحقيقية هي كسر هذه الأصنام لتحرير العقول من عبادة الكلمات. فهل نراجع أنفسنا و نحاول أن نستخلص الدرس !؟

Print Friendly, PDF & Email